مُقَدمَة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن اتبع هداه إلى يوم الدين أمَّا بعد ،
فإنَّ الباحث والناظر في الكتب والمصنفات يجد أنَّ الكتب التي اهتمت بالموضوع الذي بين يدينا قليلة؛ فمنها من يتعرض لجزئية من جزئياتها كالنظر إلى المخطوبة، ومنهما من يضم أحكامها جملة إلى الكتب المختصَّة بأحكام الزفاف متعرضًا للمسألة بإيجاز شديد؛ أمَّا أن يُفردَ الموضوع بتغطية لأغلب الجزئيَّات فلم أجد .
هذا وقد اشتدت الحاجة إلى مصنِّف في هذا الباب يلم شمل المسألة، ويقرب أطرافها بعد أن عمَّ التساهل بين الناس فيها، فوجدت ذلك مبررًا للكتابة في هذا الموضوع، فعزمت أمري.
ولمَّا كانت البركة في أقوال الكبار، فقد حاولت جمع أكبر عدد من تلك الأقوال في كل جزئية، حتى تتم الفائدة ويُتصور الخلاف، فلا تجدني فيه -أخي القارئ- أحذو حذو من يستنبط من النصوص مباشرةً ذاكرًا الأحكام باجتهاد مطلق؛ فلست ذلك الرجل؛ والبضاعة مزجاة، وإنَّما أحاول إفادة نفسي أولاً ورفع الجهل عنها وعن سائر من يصل إليه هذا العمل، طمعًا في الأجر والمثوبة وعدم انقطاع العمل، والله الموفق .
أبو عبدالله الآجُريّ
رجب 1429هـ
ما هي الخطبة ؟
خَطَب المرأَةَ يَخْطِبها خَطْباً وخِطْبة بكسر الخاء: الخطاب في قصد التزوج؛ وهي أيضًا هيئة الحال فيما بين الخاطب والمخطوبة التي النطق عنها هو الخِطبة، وجَمعُ الخاطب خُطَّاب، والخَطيبُ: الخاطِبُ، والخِطِّيبَى: المخطوبة ([1]).
وجاء في بعض المعاجم ضم الخاء في خطبة بهذا المعنى، لكن الخُطبة (بالضم) شائعة في الكلام الذي ينطق به الخطيب؛ والخطبة (بالكسر) في طلب الزواج([2]).
والخَاطِبُ والخِطْبُ: هو الذي يَخْطِبُ المَرْأَةَ وهِيَ خِطْبُه التي يَخْطُبُهَا وذلك خِطْبَتُهُ وخِطِّيبَاهُ وخِطِّيبَتُهُ وهو خِطْبُهَا بِكَسْرِهِنَّ، والخَطَّابٌ –كشَدَّادٍ-: المُتَصَرِّفُ أَي كَثِيرُ التَّصَرُّفِ في الخِطْبَةِ.
وقد جاء في المثل: ((يَقُولُ إنِّي خَاطِبٌ وقَدْ كَذَبْ وإنَّمَا يَخْطُبُ عُسًّا مِنْ حَلَبْ)).
واختطب القوم فلاناً إذا دعوه إلى تزويج صاحبتهم؛ ويخطب الرجل المرأة إلى وليها أي: يخطبها من أهلها؛ قال أَبو زيدٍ: إذا دَعَا أَهلُ المرأَةِ الرجلَ لِيَخْطُبَهَا فقدِ اخْتَطَبُوا اخْتِطَاباً وإذا أَرادُوا تَنْفِيقَ أَيِّمِهِم كَذَبوا على رَجلٍ فقالوا: قد خَطَبَها فرَددْناه؛ فإذا رَدَّ عنه قَوْمُه قالوا: كَذَبْتُم لقدِ اخْتَطَبْتُمُوهُ فمَا خَطَبَ إليكم.
يُقَالُ([3]): خَطَبَ الْمَرْأَةَ إِلَى وَلِيِّهَا، إِذَا أَرَادَهَا الْخَاطِبُ لِنَفْسِهِ، وَعَلَى فُلَانٍ إِذَا أَرَادَهَا لِغَيْرِهِ.
ويقال للمرأة: مخطوبة، أمَّا الكلمة التي يتداولها الناس اليوم وهي: خطيبة، فلم ترد في كتب اللغة، ولكنَّ المجمع الفقهي أجازها([4]) مع عدة كلمات أخرى على زنة فعيل بمعنى مفعول مما لم يرد في المعاجم؛ من ذلك: مزيج، وخطيبة بمعنى مخطوبة، وعديد بمعنى معدود.
والكلمة الأخرى التي نجدها كثيرًا اليوم وهي: الخطوبة، فهي كلمة لم أقف عليها في أحد من معاجم اللغة، بل إنِّي أشك أنها لفظة عامية محدثة، ولكن قد جاء في معجم لغة الإعلام العربي: " أما الخُطوبة فلها معنى آخر؛ إذ تَدُلُّ على الفترة التي تعقُب خِطبة المرأة وتمتد إلى الزواج"([5]) اهـ .
------------
([1]) قاله الفرَّاء، كذا عن ابن منظور في اللسان، ونظم الدرر للبقاعي، وتابعه عليه أهل اللغة، وحكي عن كراع بالضم .
([2]) معجم لغة الإعلام العربي .
([3]) نقله الحافظ ابن حجر في الفتح .
([4]) في دورته الخمسين المعقودة سنة 1404 هـ .
([5]) معجم لغة الإعلام العربي .
الخطبة على مر التاريخ
كانت الخطبة سريعةً جدًا في الجاهلية؛ كانَ الرجلُ يأتي الحَيَّ خاطباً فيقوم في ناديهم فيقول: خِطبٌ، أيْ جئتُ خاطباً، فيقال له: نِكحٌ، أي أنْكَحْناك([1])؛ حتى ظنَّت بعض الأعاجم أنَّ العرب لا تخطِب، لسرعة الخطبة ولحاقها بالزواج؛ويقولون: خِطْبٌ نِكْحٌ، وخُطْبٌ نُكْحٌِ: أي خَطَبْتَ وأنْكَحْنَاكَ.
وفي المَثَلِ: (أسْرَعُ من نِكاحِ أُمٍّ خارِجَةَ)([2]) ؛ كانت امرأة من العرب في الجاهلية قد وَلَدَت في بطون كثيرة من العرب، وهي أُمّ خارجةَ البَجَليَّة يجيئها الرجل فيقول: خِطْبٌ، فتقول: نِكْحٌ، وقال قوم: خِطِبْ، فتقول: نِكِحْ، فصار مثلاً على ألسنتهم: (أسرعُ من نِكاح أُمّ خارجةَ) .
أمًا عند بعض الشعوب الأخرى من غير العرب فإنَّها قد تدوم السنين، خصوصًا إذا لم يكن الخاطب والمخطوبة قد ميَّزا، فإنَّها تدوم حتى البلوغ، وقد تدوم أيضًا عند بعض الشعوب المُنحلَّة السنين الطويلة؛ فمفهوم فترة الخِطبة عندهم قضاء الوقت مع شريك المستقبل لمعرفة المزيد عنه، وقد تطور هذا المفهوم حتى أصبحت الخِطبة في هذه البُلدان ومنها شمال أمريكا وألمانيا وما شابهها من بلدان الانحلال: زواجًا تجريبيًا؛ فلا تنتهي الخِطبة عندهم عادة إلا بحصول الحمل، فيفضلون عندها الزواج، مراعاة لمشاعر الأطفال في المستقبل (!) وكفالة لبعض حقوقهم التي تعطيها لهم الدولة.
قال تقي الدين الهلالي –رحمه الله-: " ومن غريب ما وقفت عليه من شؤون المتخاطبين عندهم أن الرجل يخطب المرأة فيتفقان على الزواج، ويبقيان مدة طويلة يتعاشران عشرة المتحابين، وهي كما قلنا مخالطة تامة كمخالطة الزوجين، ثم يعقدان النكاح ويجتمعان على الزواج، فلا يلبثان أن تسوء عشرتهما، فيقع الشقاق بينهما ثم يعقبه الفراق.
ومن عجيب ما سمعت من ذلك في مدينة (بن) الألمانية أن متخاطبين بقيا مدة عشرين سنة متعاشرين في غاية الوفاق والوئام . . "([3]) اهـ .
وقد تأثر بعض المثقفين من المسلمين بهذه النظرة الغربية للخِطبة، وأنَّها فترة تعارف ومخالطة، ويأتي الحديث عن ردِّ الإسلام لهذه النظرة في الفصل القادم.
------------
([1]) كتاب العين المنسوب للخليل بن محمَّد .
([2]) البحر المحيط .
([3]) مجلة الجامعة الإسلامية ، العدد الثامن ، تعليم الإناث .
الخطبة في الإسلام
قد أقرَّ الإسلام الخِطبة، فقد خطب النبي -صلى الله عليه وسلَّم- عائشة وأم سلمة وغيرهما من أمهات المؤمنين –رضي الله عن الجميع-؛ خطب الأولى إلى أبيها، والثانية إلى نفسها.
ففي حديث عُروة: ((أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خطب عائشة إلى أبي بكر))([1]) .
وفي حديث أم سلمة قالت: ((لما مات أبو سلمة، أرسل إلي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطبني وأجبته))([2]) .
معنى الخِطبة في الإسلام
لا يخرج المعنيان الاصطلاحي والشرعي عن المعنى اللّغويّ: طلب الزواج والاتفاق عليه وعلى مقدماته خصوصًا، ثم تكون فيه المرأة محجوزة لخاطبها بعد الإيجاب والتراضي، فلا يجوز لأحد آخر في تلك الفترة أن يخطب على خطبة أخيه للأحاديث الصحيحة في ذلك؛ وليس للمخطوبة على خاطبها حق آخر في هذه الفترة من زيارة أو هدية أو غير ذلك، اللهم إلا إن جادت نفسه ببعض الهدايا؛ فقد ورد ذلك عن بعض السلف.
والمخطوبة تعتبر أجنبيّةً عن خاطبها، فتحرم الخلوة بها كغيرها من الأجنبيّات، وهذا باتّفاق([3]).
والحاصل: أننا إذا عرَّفنا الخِطبة اصطلاحاً نقول: إنَّها فترة تتحول فيها الأجنبية، من أجنبية مطلقة إلى أجنبية يجوز منها النظر حتى يتحقق المقصود؛ كما أنَّها التماس زواج امرأة يحل للمتقدم التزوج بها، بوعدٍ غير ملزم بعقد الزواج للطرفين، لكل منهما الرجوع عنه، لا يلتزم فيه الطرفان بأي التزام مالي، أو تعويض وإن وعد به .
------------
([1]) قال الإمام الألباني في الإرواء: صحيح؛ أخرجه البخاري (3/415) .
([2]) قال الإمام الألباني في الإرواء: صحيح؛ أخرجه مسلم (3/37) .
([3]) الموسوعة الفقهية .
نظرة الفقهاء إلى الخطبة
ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الخطبة ليست بعقد شرعيّ بل هي وعد، وإن تخيّل كونها عقداً فليس بلازم بل جائز من الجانبين، ولا يكره للوليّ الرّجوع عن الإجابة إذا رأى المصلحة للمخطوبة في ذلك، لأنّ الحقّ لها وهو نائب عنها في النّظر لها، فلا يكره له الرّجوع الّذي رأى المصلحة فيه، كما لو ساوم في بيع دارها ثمّ تبيّن له المصلحة في تركها، ولا يكره لها أيضاً الرّجوع إذا كرهت الخاطب، لأنّ النّكاح عقد عمريّ يدوم الضّرر فيه، فكان لها الاحتياط لنفسها والنّظر في حظّها، وإن رجعا عن ذلك لغير غرض كره لما فيه من إخلاف الوعد والرّجوع عن القول، ولم يحرم لأنّ الحقّ بعد لم يلزمهما، كمن سام سلعةً ثمّ بدا له ألاّ يبيعها.
وقال المالكيّة: يكره لمن ركنت له امرأة وانقطع عنها الخطّاب لركونها إليه أن يتركها([1])اهـ.
كيف تبحث عن شريك الحياة
جاء في حديث أبي هريرة –رضي الله عنه-، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم-: ((إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلاَّ تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض([2])))([3]) ؛ وفي حديث أبي سعيد الخدري نظير ذلك في النساء، قال -صلى الله عليه وسلَّم-: ((تنكح المرأة على إحدى خصال ثلاثة، تنكح المرأة على مالها، و تنكح المرأة على جمالها، و تنكح المرأة على دينها، فخذ ذات الدين والخلق تربت يمينك))([4]).
فقد حثَّ الرسول -صلى الله عليه وسلَّم- في الحديث الأوَّل أن يُزَوج ذو الخلق والدين، وأن يكون الخلق والدين العامل المُرجح في المفاضلة، وليس المال فقط، فلا يزوج صاحب الخلق السيئ وفاقد الدين.
قَالَ الطِّيبِيُّ: "وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ لِمَالِكٍ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَا يُرَاعَى فِي الْكَفَاءَةِ إِلَّا الدِّينَ وَحْدَهُ. وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ: أَنَّهُ يُرَاعَى أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ، الدِّينُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالنَّسَبُ وَالصَّنْعَةُ، فَلَا تُزَوَّجُ الْمُسْلِمَةُ مِنْ كَافِرٍ، وَلَا الصَّالِحَةُ مِنْ فَاسِقٍ، وَلَا الْحُرَّةُ مِنْ عَبْدٍ، وَلَا الْمَشْهُورَةُ النَّسَبِ مِنْ الْخَامِلِ، وَلَا بِنْتُ تَاجِرٍ أَوْ مَنْ لَهُ حِرْفَةٌ طَيِّبَةٌ مِمَّنْ لَهُ حِرْفَةٌ خَبِيثَةٌ أَوْ مَكْرُوهَةٌ، فَإِنْ رَضِيَتْ الْمَرْأَةُ أَوْ وَلِيُّهَا بِغَيْرِ كُفْءٍ صَحَّ النِّكَاحُ كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ"([5]).
يقول الإمام الألباني: " الكفاءة على قسمين، قسم اتُفق عليه وقسم اختلف فيه.
كفاءة الدين والخلق أمر متفق عليه .
كفاءة النسب اختلف فيها، والحق أنَّ كفاءة النسب لا قيمة لها.
النبي -صلى الله عليه وسلَّم- :أبطل الكفاءة النسبية"([6]) اهـ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : يَنْبَغِي أَنْ يَتَخَيَّرَ مَا يَلِيقُ بِمَقْصُودِهِ –أي الخاطب-، وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يُذْكَرَ لَهُ مَا يُصْلَحُ لِلْمَحَبَّةِ، فَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: حَسَنٌ فِي كُلِّ عَيْنٍ مَا تَوَدُّ .
ولا يُفهم من ذلك عدم إباحة الزواج لأجل المال والجمال
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: " ظَاهِره إِبَاحَة النِّكَاح لِقَصْدِ كُلّ مِنْ ذَلِكَ لَكِنَّ قَصْدَ الدِّين أَوْلَى.
. . . وَلَمْ يَنْحَصِر قَصْد نِكَاح الْمَرْأَة لِأَجْلِ مَالهَا فِي اِسْتِمْتَاع الزَّوْج، بَلْ قَدْ يَقْصِد تَزْوِيج ذَات الْغِنَى لِمَا عَسَاهُ يَحْصُل لَهُ مِنْهَا مِنْ وَلَد فَيَعُود إِلَيْهِ ذَلِكَ الْمَال عن ِطَرِيقِ الْإِرْث إِنْ وَقَعَ، أَوْ لِكَوْنِهَا تَسْتَغْنِي بِمَالِهَا عَنْ كَثْرَة مُطَالَبَته بِمَا يَحْتَاج إِلَيْهِ نِسَاء وَنَحْو ذَلِكَ "([7]) .
حتى ذهب جماعة من أهل العلم إلى أنَّه إذا هم خاطب بخطبة، فإنَّه –مثلاً- يبحث عن الجمال أولاً، حتى إذا وجد عيبًا في دينها، فإنَّه يعرض عنها، فيكون قد أعرض بذلك عن الدنيا لأجل الدين، أمَّا لو كان شرطه الوحيد في البحث الدين ثم إذا وجدها قبيحة أعرض عنها، فإنَّه يكون قد أعرض عن الدين لأجل الدنيا، وهو في غنى عن ذلك باتباعه الطريقة الأولى([8]).
------------
([1]) الموسوعة الفقهية، خطبة .
( [2]) قال المباركفوري في التحفة: " أَيْ إِنْ لَمْ تُزَوِّجُوا مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ وَتَرْغَبُوا فِي مُجَرَّدِ الْحَسَبِ وَالْجَمَالِ أَوْ الْمَالِ يَحْصُلُ الفَسَادُ العَرِيضُ أَيْ ذُو عَرْضٍ أَيْ كَبِيرٌ. وَذَلِكَ لِأَنَّكُمْ إِنْ لَمْ تُزَوِّجُوهَا إِلَّا مِنْ ذِي مَالٍ أَوْ جَاهٍ، رُبَّمَا يَبْقَى أَكْثَرُ نِسَائِكُمْ بِلَا أَزْوَاجٍ، وَأَكْثَرُ رِجَالِكُمْ بِلَا نِسَاءٍ، فَيُكْثِرُ الِافْتِتَانُ بِالزِّنَا، وَرُبَّمَا يَلْحَقُ الْأَوْلِيَاءَ عَارٌ فَتَهِيجُ الْفِتَنُ وَالْفَسَادُ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ قَطْعُ النَّسَبِ وَقِلَّةُ الصَّلَاحِ وَالْعِفَّةِ.
([3]) قال الإمام الألباني: حسن؛ أخرجه الترمذي (1/201) وابن ماجه (1967) والحاكم (2/164 - 165) وأبو عمر الدوري في "قراءات النبي -صلى الله عليه وسلم-" (ق 135/2) والخطيب في "تاريخ بغداد" (11/61) انتهى من الإرواء .
( [4]) أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (1231) والحاكم (2/161) وأحمد (3/ 8 -81) من طريق سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن عمته عن أبي سعيد الخدري، الصحيحة 307 .
([5]) تحفة الأحوذي (3/150) .
([6]) من سلسلة الهدى والنور .
([7]) فتح الباري (14/330) .
([8]) محمد بازمول، فائدة .
وبالجملة فإنَّه يمكن تقسيم الجمال إلى نوعين:
جمال حسي: وهو كمال الخلقة؛ لأنَّ المرأة كلما كانت جميلة المنظر عذبة المنطق قرت العين بالنظر إليها وأصغت الأذن إلي منطقها؛ فينفتح إليها القلب وينشرح إليها الصدر وتسكن إليها النفس ويتحقق فيها قوله تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} [الروم: 21].
جمال معنوي: كمال الدين والخلق؛ فكلما كانت المرأة أدين وأكمل خلقًا كانت أحب إلي النفس وأسلم عاقبة؛ فالمرأة ذات الدين قائمة بأمر الله، حافظة لحقوق زوجها وفراشه وأولاده وماله، معينة له على طاعة الله تعالى، إن نسي ذكرته، وإن تثاقل نشطته، وإن غضب أرضته، و المرأة الأدبية تتودد إلي زوجها وتحترمه ولا تتأخر عن شيء يحب أن تتقدم فيه، ولا تتقدم في شيء يحب أن تتأخر فيه؛ ولقد سُئل النبي -صلي الله عليه وسلم- أي النساء خير؟ قال: ((التي تسره إذا نظر وتطيعه إذا أمر ولا تخالفه في نفسها ولا ماله بما يكره))([1]) وقال -صلي الله عليه وسلم-: ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء، أو قال: الأمم))([2]).
فإن أمكن تحصيل امرأة يتحقق فيها جمال المنظر وجمال الباطن فهذا هو الكمال والسعادة بتوفيق الله([3]).
تربت يمينك؟
وقوله -صلى الله عليه وسلَّم-: " فخذ ذات الدين والخلق تربت يمينك"، قال فيه ابن قتيبة: "هذا من باب الدعاء الذي لا يراد به الوقوع"([4]) اهــ ؛ وَعَادَةِ الْعَرَبِ فِي تَخَاطِبْهَا أَنَّهُمْ يُسْتَعْلَمُونَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ عِنْدَ الْإِنْكَارِ لِمَنْ لَا يُرِيدُونَ فَقْرَهُ([5]) والراجح أنه شيء يدعم به الكلام، تارة للتعجب، وتارة للزجر أو التهويل، أو الإعجاب، وهو كويل أمه، ولا أبا لك، وعقرى حلقي([6]) .
طُرق التعرف على خلق المرأة ودينها
فترة الخِطبة وما قبلها ليست فقط حجزًا للمخطوبة بعد الاتفاق أو مجالاً لتأكيد رغبة الخاطب في الزواج؛ بل هي فترة أيضًا للاستقصاء والسؤال عن حال المخطوبة وأهلها، وكذلك الأمر للمخطوبة .
وذلك يكون بعين العقل بعيداً عن العواطف، ويكون ذلك بالنظر إلى البيئة التي جاء منها المسؤول عنه، فإن الإنسان في الغالب ابن بيئته، وبالسؤال عن الأسرة التي ينتمي إليها، فإن الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، وبالسؤال عن القرناء، لأن القرينبالمقارن يقتدي، وبالسؤال عن دينه وخلقه وسلوكه.
قال الشاعر:
وأول خبث المرء خُبث تُرابه
وأول خبث القوم خبث المناكح
وقال آخر:
إذا تزوجت فكن حاذقاً
وأسأل عن الغصن وعن منبته
------------
([1])رواه احمد و النسائي كتاب النكاح باب أي النساء خير رقم( 3231) .
([2]) رواه أبو داود كتاب النكاح باب النهي عن تزويج من لم يلد من النساء رقم ( 2050) و النسائي كتاب النكاح باب كراهية تزويج العقيم رقم ( 3227).
([3]) من كتاب الزواج للعلامة ابن عثيمين، خيرية ابن عثيمين .
([4])نقله ابن بطال في شرحه .
([5]) مقدمة الفتح (1/90) .
([6]) المنقى شرح الموطأ (1/119) .
موانع الخطبة
إذا انتفت هذه الموانع فإنَّه يجوز التصريح والتعريض في خِطبة الخالية من الموانع، وهذه الموانع هي:
أ-النكاح: وهي أن تكون ذات زوج.
ب-المحَرَم: وهي أن تكون محرماً للخاطب؛ أخته من الرضاع مثلاً، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْخَاطِبُ لَمْ يَرْتَضِعْ مِنْ أُمِّ الْمَخْطُوبَةِ وَلَا هِيَ رَضَعَتْ مِنْ أُمِّهِ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ كَانَ إخْوَتُهما تَرَاضَعَا([1]).
ت-المعتدة: لا تجوز خطبة المعتدة الرجعية تعريضاً أو تصريحاً؛ أما غيرها كالمعتدة البائن، أو من اعتدت لفسخ أو انفساخ، أو موت فإنه لا يجوز أن تُخطب تصريحاً، وإنَّما يجوز ذلك تعريضاً؛ ويجب أن تجيب المخطوبة تعريضاً لا تصريحاً أيضاً.
ث-الخطبة: بأنَّ تكون مخطوبة ركنت إلى الخاطب وأجابته بالموافقة، فلا يجوز للمسلم الخطبة على خطبة أخيه، للحديث الصحيح في ذلك .
مسألة: هل الفسق مانع من موانع الخطبة؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في المجموع: " إذَا كَانَ مُصِرًّا عَلَى الْفِسْقِ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْوَلِيِّ تَزْوِيجُهَا لَهُ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَنَّ زَوَّجَ كَرِيمَتَهُ مِنْ فَاجِرٍ فَقَدْ قَطَعَ رَحِمَهَا. لَكِنْ إنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَابَ؛ فَتُزَوَّجُ بِهِ إذَا كَانَ كُفُؤًا لَهَا وَهِيَ رَاضِيَةٌ بِهِ" اهـ .
ولكنه ليس من موانع الخطبة بمعنى أنَّها تنفسخ أو أنها محرمة كما هو ظاهر أعلاه؛ ولكن الأولى ألا تُزوج إلا لذي الخلق والدين؛ فإن كان للخاطب خلل في دينه بترك واجب أو فعل محرَّم فلا يُزوج إلاَّ أن لا نجد خيراً منه، ويُراعى في ذلك حال المخطوبة، فإن كانت صغيرة في السن، ويتوارد عليها الخُطَّاب فلا يوافق عليه؛ أمَّا إن كانت كبيرة ويُخشى عليها أن تصبح عانساً فإنها تُزوَّج، على أن يشترطوا أن ينتهي عما هو فيه من نقص؛ وإن لم يتوقف بعد ذلك، كأن يكون مدخناً -والعياذ بالله- فإنَّه يُشترط عليه ألا يُدخن أمامها أو أمام أولادها([2]) .
------------
([1]) قاله شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى .
([2]) هذا الفصل مستفاد من تقريرات الإمام العلامة ابن عثيمين، في أكثر من موضع من فتاوى نور على الدرب .
وماذا إن كان الخاطب رافضيًا؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: " الرَّافِضَةُ الْمَحْضَةُ هُمْ أَهْلُ أَهْوَاءٍ وَبِدَعٍ وَضَلَالٍ وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُزَوِّجَ مُوَلِّيَتَهُ مِنْ رافضي وَإِنْ تَزَوَّجَ هُوَ رافضية صَحَّ النِّكَاحُ إنْ كَانَ يَرْجُو أَنْ تَتُوبَ وَإِلَّا فَتَرْكُ نِكَاحِهَا أَفْضَلُ لِئَلَّا تُفْسِدَ عَلَيْهِ وَلَدَهُ" اهـ .
وقال في موضع آخر: " لَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يُنْكِحَ مُوَلِّيَتَهُ رافضيا وَلَا مَنْ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ . وَمَتَى زَوَّجُوهُ عَلَى أَنَّهُ سُنِّيٌّ فَصَلَّى الْخَمْسَ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ رافضي لَا يُصَلِّي أَوْ عَادَ إلَى الرَّفْضِ وَتَرَكَ الصَّلَاةَ : فَإِنَّهُمْ يَفْسَخُونَ النِّكَاحَ" اهـ .
هل الفقر من موانع الخِطبة؟
قال تعالى: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النــور: 32].
قال المفسرون: والمعنى، لا يمنعن فقر الخاطب أو المخطوبة من المناكحة؛ فإن في فضل الله غنية عن المال، فإنه غاد ورائح، أو وعد من الله بالإِغناء، لكنه مشروط بالمشيئة كقوله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَاء} .
قال الحافظ في الفتح: " الْفَقْر فِي الْحَال لَا يَمْنَع التَّزْوِيج، لِاحْتِمَالِ حُصُول الْمَال فِي الْمَآل" اهـ .
الفارق في السن بين الطرفين
السِنُّ ليس من موانع الخطبة([1])؛ ويكفيك أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وآله وسلم- تزوَّج خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها- وكانت تكبره بسنوات وكانت من أحبّ الناس إليه وهي التي ولدت له الأولاد دون سائر نسائه والتي كان من نسلها الحسن والحسين رضي الله عنهما، لذلك كان السنُّ ليس مانعًا من اختيار الزوجة الصالحة التي تعينه على إقامة الدين وتحقيق المودَّة والرَّحمة والسكون التي ذكرت في قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: 21] ([2]).
وكذلك العكس كأن يكون الفارق العمري بين الخاطب والمخطوبة كبيرًا جدًا، والخاطب هو الأكبر، فإنَّه لا يوجد في الإسلام ما يمنع ذلك إذا لم يقترن بذلك محرم.
فقد أشار إلى ذلك العلاَّمة الفوزان، وألمح إلى زواج النبي –صلى الله عليه وسلَّم- بعائشة وغير ذلك من الوقائع في عهد الصحابة، واستدل بهذه الوقائع من السنة النبوية على تزويج الكبير بالشابة، فقال: " والآن ينادون ويحذرون منه، ويشنّعون على تزويج الكبير، ويعتبرونه جريمة، ووحشية، وينددون بما فعله في الصحف والمجلات ووسائل الإعلام، بل ربما في الخطب والمحاضرات، و هذا الرسول -صلى الله عليه وسلم- سيد الخلق تزوج عائشة وهو في سن الخمسين تقريبًا، وهي في سن السابعة، فدلّ على أنه لا بأس به، بل يُرغب في تزويج الكبير من الشابة إذا كانت هناك مصلحة في ذلك، وأنهذه سنة نبوية، فمن أنكر تزويج الكبير من الشابة فإنه أنكر سنة نبوية، هذا إذا كانتالمصلحة في ذلك.
أما إذا لم يكن هناك مصلحة، وإنما هو استغلال من وليّ هذه الطفلة من أجل أن يستغل تزويجها، وهي ليس لها مصلحة فهذا لا يجوز .
إنما نقول : إذا كانت المصلحة في ذلك فلا حرج في تزويج الكبير من الشابة، إذا كان في ذلك مصلحة وخير، وأن هذا من سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم-"([3]) اهـ .
أمَّا إن كان جواز الشيخ بالصبية يؤدي إلى عدم قضائها المتعة من الزواج ويؤدي إلى زيغ عينها وعدم إعفافها، فإنَّ تزويجها بالشيخ فيه ضرر لها، وهو معنى قول ابن مفلح في الفروع: " وَمِنْ التَّغْفِيلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الشَّيْخُ صَبِيَّةً" اهـ .
------------
([1]) يقول ابن الجوزي: " وَأَحْسَنُ مَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ بِنْتَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً إلَى الْعِشْرِينَ، وَيَتِمُّ نُسُوُّ الْمَرْأَةِ إلَى الثَّلَاثِينَ، ثُمَّ تَقِفُ إلَى الْأَرْبَعِينَ، ثُمَّ تَنْزِلُ" نقلاً عن الفروع لابن مفلح اهـ .
( [2]) من فتاوى الدكتور محمد علي أبو عبد المعز فركوس؛ الجزائر في: 12 رمضان 1426ﻫ الموافق ﻟ: 15 أكتوبر2005م؛ راجعها في موقعه على الشبكة .
([3])إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد ( 1/169) .
خِطبة القريبة، وزواج الأقارب
ذهب بعض العلماء إلى تفضيل زواج الأباعد لفائدتين:
الفائدة الأولى: أنَّه أنجب للولد، بمعنى أنَّه يجذبه عرق أمه إذا كان من قبيلة، وعرق أبيه إذا كان من قبيلة أخرى، فتكون في هذا الطفل أخلاق هؤلاء وهؤلاء.
الفائدة الثانية: عدم حصول القطيعة بين الأرحام، لأنَّه قد يحصل بينه وبين زوجته خلاف يؤدي إلى تقاطع الأرحام ليس بين الزوجين فقط، بل بين الأقارب كلهم من هؤلاء وهؤلاء([1]).
ولكنَّ عموم قوله عليه الصلاة والسلام: ((تنكح المرأة على إحدى خصال ثلاثة، تنكح المرأة على مالها، و تنكح المرأة على جمالها، و تنكح المرأة على دينها، فخذ ذات الدين والخلق تربت يمينك))([2]) يشمل القريبة والبعيدة، ولا يخفى علينا أنَّ علي ابن أبي طالب تزوج بفاطمة –رضي الله عنهما- وهي بنت عمه، فعم الرسول عليه الصلاة والسلام، عم علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- ؛ فالصواب أنَّه لا تضر القرابة والبعد، ولكن نتجه إلى ما أرشد إليه النبي –عليه الصلاة والسلام- : ((فاظفر بذات الدين تربت يداك))([3]) .
وقد جاء في فتاوى اللجنة الدائمة: " ليس هناك أحاديث صحيحة تمنع من الزواج بين الأقارب، وحصول الإعاقة إنما يكون بقضاء الله وقدره، وليس من أسبابه الزواج بالقريبات كما يشاع([4])، ولا يجوز منع الإنجاب خوفا من الإعاقة، بل يجب التوكل على الله سبحانه وإحسان الظن به([5])" اهـ.
فالخلاصة أنَّ زواج الأقارب([6]) لم يرد به نهي صريح في الإسلام، ولا حث عليه، فهو متروك لاختيار الناس وما هو أنسب لهم، ولعل هذا النهج يؤكد ما توصل إليه الطب الحديث في هذا الموضوع، وهو أن زواج الأقارب ليس ضارًا على طول الخط، فقد يكون نافعًا في حالة ارتفاع نسبة الذكاء والجمال والقوة في العائلة، وبالتالي فالقول بأن زواج الأقارب كله ضرر، مع كون الإسلام أباحه، كلام تعوزه الصحة العلمية.
ولعل من المناسب إيراد رأي الأطباء في هذه المسألة، يقول الدكتور أحمد شوقي إبراهيم استشاري الأمراض الباطنية([7]):
إذا نظر أي عالم نظرة متأنية في أبعاد هذا الموضوع؛ لوجد أن القول: " بأن زواج الأقارب يعطي الفرصة لزيادة الأمراض الوراثية في الذرية " ليس قولاً صحيحًا في كل الأحوال .
قد يكون صحيحا في حالات معينة ولكنه ليس صحيحا في كل الحالات، وبالتالي لا ينبغي أن يكون قانونا عاما أو قاعدة عامة.
وهناك بعض الحقائق الأساسية في هذا الموضوع :
زيادة نسبة ظهور الأمراض الوراثية في الذرية الناتجة من العوامل الوراثية المتنحية من كلا الأبوين ليست معتمدة على زواج الأقارب في كل الأحوال ولكنها تعتمد أساسًا على مدى انتشار العامل الوراثي المرضي المتنحي بين أفراد المجتمع ككل .
فإذا كان منتشرا بنسبة أكثر من 1 : 8 في المجتمع؛ فإن زواج الأباعد لا يكون ضمانًا لإنجاب أصحاء وراثيًا .
نفهم من ذلك أن ظهور بعض الأمراض الوراثية في المجتمعات التي تنتشر بين أفرادها العوامل الوراثية المرضية المتنحية انتشارا نحو 1 :8 تتساوى نسبة ظهورها في الذرية في زواج الأقارب وزواج الأباعد على سواء .
وهناك فرض آخر إذا كانت نسبة انتشار العامل الوراثي المرضي المتنحي في المجتمع أكثر من 12 % وكانت أسرة في هذا المجتمع نقية وراثيا في هذه الحالة فإن الزواج بين الأقارب في هذه الأسرة أفضل كثيرا وأكثر ضمانا من زواج الأباعد .
ومن أمثلة تلك الأمراض - مرض الأنيميا المنجلية :
إذا كان العامل الوراثي المتنحي منحصرًا في أفراد أسرة معينة أكثر مما هو في أفراد المجتمع من حولهم فإن زواج الأباعد يكون أفضل من زواج الأقارب؛ أما إذا كان العكس هو الصحيح وكان أفراد الأسرة أنقياء وراثيًا وأفراد المجتمع من حولهم ينتشر فيهم العامل الوراثي المتنحي، ففي هذه الحالة يكون زواج الأقارب أكثر ضمانًا وأمنًا من زواج الأباعد، فمثلا في بعض مناطق إيطاليا وصقلية يوجد العامل الوراثي المتنحي لمرض الأنيميا المنجلية منتشرا في أفراد المجتمع بنسبة تصل 10% والنسبة أعلى في مجتمعات أخرى مثل بعض مناطق كينيا حيث تصل النسبة إلى 40% في أفراد المجتمع، فإذا افترضنا أن أسرة هاجرت إلي هناك وكان أفرادها أنقياء وراثيا من هذا العامل الوراثي. أفلا يكون زواج الأقارب أفضل من زواج الأباعد ؟
و لا يجوز أن ننسى أن زواج الأقارب له جوانب إيجابية :
أ - إذا كان بالأسرة عوامل وراثية مرغوبة ليست في غيرها من الأسر مثل صفات الجمال والذكاء والقوة أو طول العمر وغيرها، حينئذ يكون زواج الأقارب أفضل من زواج الأباعد، شريطة ألا يستمر الزواج بين الأقارب جيلاً حتى لا تتحول الأسر إلى مجتمعات صغيرة مغلقة، وهو ما ثبت وراثيا أنه مضر .
وهكذا تتساوى الاحتمالات فى زواج الأقارب والأباعد في هذه الحالات.
و الجانب الإيجابي الأخر فى زواج الأقارب هو عدم التضحية بجيل من أجل جيل آخر، ولشرح هذه النقطة نفترض أن في مجتمع ما صار الزواج بين أقرباء فقط فى هذه الحالة نجد أن نسبة تواجد الجينات المرضية في هذا المجتمع ستزداد في ذرية هذا الجيل نتيجة عدم التخلص من هذه الجينات المرضية، اذ أن التقاءها في حالة مزدوجة أو نادر الحدوث .
والنتيجة أنه بمرور الأجيال سترتفع نسبة تواجد هذه الجينات المرضية في المجتمع، وهذا يؤدي إلى زيادة مطردة في ظهور الأمراض الوراثية المحكومة بهذه الجينات في الأجيال القادمة مثل مرض تليف البنكرياس.
نخرج من هذا بنتيجة هامة، وهي أن زواج الأقارب قد يضحي بالجيل الحاضر من أجل الأجيال القادمة، و زواج الأباعد قد يضحى بالأجيال القادمة من أجل الجيل الحاضر وهكذا نجد في النهاية حتى فى الأمراض المحكومة بجينات متنحية لا تفضيل لزواج الأقارب على زواج الأباعد ولا لزواج الأباعد على زواج الأقارب.
و الاحتمال العلمي لنقل القلة من الأمراض الوراثية الناتجة من جينات متنحية عن طريق زواج الأقارب يقع في حالة واحدة، وهى أن يكون أفراد المجتمع أنقياء وراثيا وأفراد الأسرة غير أنقياء وراثيًا.
قال العرب قديمًا: الغرائب أنجب ، وبنات العم أصبر.
------------
([1]) وقد ذهب العلاَّمة ابن باز رحمه الله إلى أنَّ زواج الأفارب فيه تعزيز لصلة الرحم .
( [2]) أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (1231) والحاكم (2/161) وأحمد (3/ 8 -81) من طريق سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن عمته عن أبي سعيد الخدري، الصحيحة 307 .
([3]) قاله الإمام ابن عثيمين في لقاء الباب المفتوح الشريط 12 الدقيقة 19.
([4]) وهذا ما أتبتته عدة دراسات طبية اطلعت عليها ستجد أحدها في هذا الفصل .
([5])الجزء 18، ص14 .
([6]) ما يلي هذا النص وما يليه في موضوع زواج الأقارب، هو ما وقعت عليه عيني في أحد المواقع على الشبكة، نقحته وأزلت بعض ما يعتريه .
([7]) طبيب مصري شهير .
عرض الوليّ مولّيته على ذوي الصّلاح
يستحبّ للوليّ عرض مولّيته على ذوي الصّلاح والفضل، كما عرض الرّجل الصّالح إحدى ابنتيه على موسى -عليه الصلاة والسلام- المشار إليه في قوله تعالى: { إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ} الآية، وكما فعل عمر -رضي الله عنه- حيث عرض ابنته حفصة -رضي الله تعالى عنها- على عثمان، ثمّ على أبي بكر -رضي الله تعالى عنهما- .
هل تستحب صلاة الاستخارة للخطبة والزواج؟
الزواج نفسه قد يكون واجبًا، ولكن عليه أن يستخير الله عز وجل فربما تكون هذه المرأة سببًا لصده عن الخير كما قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((إن يك من الشّؤم شيء حقّ ففي المرأة والفرس والدّار))؛ فلا بأس أن يستخير الله -سبحانه وتعالى- أيتزوج هذه المرأة أم يتزوج غيرها؛ فربما تكون تعاسة عليه إذا تزوج بها([1]).
خُطبة الخِطبة
جرَت عادة العرب، أهل الفصاحة والبيان على الخطابة في الأمور الجليلة، وهذا منها، وقد عهد عنهم التقديم للخِطبة بخُطبة فيها التماس للصهر والمواصلة، وتكون هذه الخُطبة مبنيةً على وصف الطرفين بما يقتضي الرغبة، ويدل الخاطب عن نفسه بما يؤدي إلى الكفاية والإسعاف بالطلبة([2]) ولم يرد فيها نص صريح .
صفة خُطبة الخِطبة
ليس لها صفة معينة، و لم يرد نص في ذلك كما تقدم، وهي تتبع عرف الناس بما لا يخالف الشرع؛ وقد كان من عرف العرب وعادتهم الخُطبة للخِطبة على مر العصور؛ قال أبو عباد كاتب ابنِ أبي خالد: " وكانت خُطبة قريش في الجاهليّة - يعني في خِطبة النساء - : باسمك اللهم، ذُكِرَتْ فلانةُ وفلانٌ بها مشغوف، باسمك اللهم، لك ما سألت ولنا ما أعطيت"([3]) .
فيبدأ المسلم مثلاً بالحمد والثّناء على اللّه تعالى، ثمّ بالصّلاة على رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- ثمّ يوصي بالتّقوى، ثمّ يقول: جئتكم خاطباً كريمتكم، وإن كان وكيلاً قال: جاءكم موكّلي خاطباً كريمتكم أو فتاتكم، ويخطب الوليّ أو نائبه كذلك، ثمّ يقول: لستَ بمرغوبٍ عنكَ أو نحوه مما يفيد الرضا والقبول.
وجاء الإسلام وقد علَّم الرسول -صلى الله وسلَّم- فيه خطبة الحاجة([4])، وقد استحب العلماء أن يبدأ بها بما جاء عن ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه-: « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم علّمنا خطبة الحاجة : إنّ الحمد للّه، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا، من يهده اللّه فلا مضلّ له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له وأنّ محمّداً عبده ورسوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } { يا أيّها النّاس اتّقوا ربّكم الّذي خلقكم من نفس واحدة} إلى قوله : {رَقِيباً} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} إلى قوله {عَظِيماً} .
وكان القفّال يقول بعدها : " أمّا بعد، فإنّ الأمور كلّها بيد اللّه، يقضي فيها ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا مؤخّر لما قدّم ولا مقدّم لما أخّر، ولا يجتمع اثنان ولا يتفرّقان إلاّ بقضاء وقدر وكتاب قد سبق، وإنّ ممّا قضى اللّه تعالى وقدّر أن خطب فلان بن فلان فلانة بنت فلان . . أقول قولي هذا وأستغفر اللّه لي ولكم أجمعين"([5]) .
وأمَّا قراءة الفاتحة فيها وفي العقد بدعة؛ لم تؤثر عن أحد من السلف، وخرافة من خرافات العوام([6]) .
------------
([1]) تحفة المجيب للشيخ العلاَّمة مقبل الوادعي –رحمه الله- ف91 .
([2]) بتصرف من صبح الأعشى (3/486) .
([3]) نقله الجاحظ في البيان والتبيين (1/119) .
( [4]) يقول العلاَّمة الفوزان في شرحه لبلوغ المرام: خطبة الحاجة سنة، وقد زوج الرسول الواهبة بدون خطبة .
([5]) الموسوعة الفقهية، سبق العزو إليه .
([6]) كما قال الإمام ابن باز -رحمه الله- وغيره من علماء أهل السنة والجماعة .
متى يُدفع المهر؟
هذه المسألة من المسائل العرفية، فيجوز دفعه قبل العقد وبعد العقد وعند العقد، فإذا اتفقا عليه وجب تسليمه، فإن اتفقا عليه حالاً وجب تسليمه حالاً، وإن اتفقا عليه إلى أجله وجب تسليمه إلى أجله، وإن اتفقا على دفعه قبل العقد حتى يتمكن أهل المخطوبة من تجهيزات الزواج فهذا جائز، ولا يحتاج إلى تحديد شيء، فإن أعطاهم ما تيسر واتفق كفى، فمن قدم شيئاً مما طالت به نفسه إلى أهل الزوجة ورضوا به ولم يردوه كفى، أمَّا إن حددوه بشيء فهو مخير، إن شاء سلَّم لهم ما حددوا، وإن شاء ترك ([1]).
تقديم الهدايا للمخطوبة وأهلها
يفتي العلماء بجواز أمور في مرحلة الخطبة كالهدية وفي هذا آثار عن السلف؛ وجماهير العلماء على جوازها، بل جرى الأمر عندهم على بحث جواز استردادها إن فسخت الخطبة أم لا؛ وممن حقق في هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن باز وابن عثيمين -رحمهم الله جميعاً-؛ والأصل في الهدية تحقيق المقصد الشرعي: ((فإنَّه أحرى أن يؤدم بينكما)) .
يقول الإمام ابن عثيمين: " وأما ما يرسل إلى المخطوبة عند الخطبة من أنواع الحلي فإن هذا لا بأس به لأنه عبارة عن هدية يقصد بها تحقيق رغبة الزوج لمخطوبته"([2]).
وقد بيَّن شيخ الإسلام ابن تيمية أن الهدية ليست من المهر قطعًا([3]) .
هل الأصل في الخِطبة الإخفاء أم الإعلان؟
ولا شك أنَّ المرء إذا عزم على الخطبة، ولكنه لم يقدم على إخبار ولي المخطوبة ولم يحصل الإيجاب والتراضي بعد، فإنَّه يكتم الأمر حتى يتحقق المقصود؛ فقد أشار بعض العلماء([4]) إلى أنّه كما يشرع إعلان النكاح، فإنه ينبغي إخفاء الخطبة، استعانة على إنجاح الحوائج بالكتمان، ولأنّ حفظ الأعراض عن مقالة السوء قد راعته الشريعة، حتى لا يتناول بعض ضعاف النفوس المرأة التي تركها من خطبها بألسنتهم([5]) وفي ذلك حديث ضعيف لا يعوَّل عليه؛ وهو حديث: ((أظهروا النكاح وأخفوا الخطبة)) رواه الديلمي في الفردوس عن أم سلمة بإسناد ضعيف؛ قال الألباني في السلسلة الضعيفة: "سكت عليه الحافظ في مختصره وسنده ضعيف، أم علقمة واسمها مرجانة مجهولة الحال، ومن دون الدراوردي فيه من لم أعرفه" اهـ.
وقد ذهب آخرون من أهل العلم إلى أن تحقيق حديث عدم الخطبة على خطبة أخيه لا يتم إلا بمعرفة الناس أمر خطبة فلانة، وإخفاء الخطبة يتنافى مع ذلك، وهذا له وجه قوي راجح ولكنَّ محلَّه بعد القبول والإيجاب.
وغاية الأمر أنَّه إن تحققت المحاذير التي قال بها الفريق الأوَّل؛ فلا شك أنَّه ينبغي إخفاء الخطبة لتلك المحاذير، وإن لم تحقق فإعلانها بما لا يتنافى مع الشرع أمر لم يذكر العلماء فيه نهيًا، بل جاء ما يعضده.
------------
([1]) من فتوى للإمام ابن باز في برنامج نور على الدرب ش510 د7 .
([2]) نور على الدرب .
([3]) وقد سُئل الشيخ عبدالمحسن العبَّاد: هل يعتبر بعض ما يفعله الناس من الولائم قبل النكاح، بما يسمَّى بالشبكة وغيرها، هل يعتبر من الإسراف؟
فأجاب: لا شكَّ أنَّه من التكلُّف، ومن الأشياء التي تُثقل كاهل الزوج، وعدم فعل هذه الأشياء والاكتفاء بوليمة واحدة مع عدم المُبالغة فيها هذا هو الذي ينبغي؛ من شرح سنن أبي داود ش157 د55 .
([4]) وهم المالكية بالجملة .
([5]) تفسير القرآن للقرطبي (3/189) مع التعقيب للحمدان بتصرف، تكملة على مقال بتاريخ 28/8/1424هـ .
يتبع في التعليقات >>