الباب الثاني
فضائل صلاة الجماعة السبع والعشرين
الفصل الخامس :
صلاة تحية المسجد
الحمــد لله الذى امتن على عباده المؤمنين بما دلهم عليه من معرفته ، وشرح صدورهم للإيمان به ، والإخلاص بالتوحيد لربوبيته ، ففرض جل ثناؤه عليهم فرائضه ، فلا نعمة أعظم على المؤمنين بالله من نعمة الإيمان ، والخضوع لربوبيته ، ثم النعمة الأخرى ما افترض عليهم من الصلاة خضوعا لجلاله ، وخشوعا لعظمته ، وتواضعا لكبريائه ، فقال سبحانه وتعالي : " وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ " ( [1] ) فلم يفترض عليهم بعد توحيده ، والتصديق برسله ، وما جاء من عنده فريضة آكد من الصلاة .
ولقد أكثر الله سبحانه وتعالي من ذكر الصلاة في كتابه الكريم ، وعظم شأنها ، وأمر بالمحافظة عليها وأدائها في الجماعة .
وقد بينت السنة النبوية فضل صلاة الجماعة فى أحاديث كثيرة منها حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنهقال : قَالَ رَسُولَ اللَّهِ : " صَلاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلاةَ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَة " ( [2] ) وقد انفزدت رواية ابْنِ عُمَرَ بأنها تفضل : " ًبِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً " ( [3] )
وقد أحصى بعضُ الشارحين سبعا وعشرين فضيلة لصلاة الجماعة ، وقد سبق لنا فى خطب سابقة إلقاء الضوء على بعض منها ، بدأًًًًًًً بالفضيلة الأولى وهى ترديد الأذان خلف المؤذن . ثم ثنينا بـ" التَّهْجِير" أَيْ التَّبْكِير بالذهاب إلى المسـجد ثم الثالثة وهى المشى إلى المسجد بالسـكينة والوقار ، ثم الرابعة وهي دخول المسجد داعيا ، كل ذلك بنية الصلاة في الجماعة ، واليوم بفضل الله تعالى مع الخامسة من الفضائل السبع والعشرين لصلاة الجماعة ، ألا وهى : صلاة تحية المسجد .
عرفنا في الأسبوع الماضي أنلداخل المسجد إن كان فيه جماعة ثلاث تحيات متواليات :
· الأولي أن يدخل برجله اليمني ويقول عند دخوله : بسم الله والصلاة والسلام على رسـول الله اللهم اغفر لي وافتح لي أبواب رحمتك ، أو غير ذلك من أذكار كثيرة ، ثبتت عن رسول الله في موطن الدخول إلى المسـجد .
· ثم يصلى ركعتين تحية المسجد وهي الثانية· ثم يسلم على القوم وهي الثالثة .
فهديه أن الداخل إلى المسجد يبتدئ بركعتين تحية المسجد ، ثم يجىء فيسلم على القوم ، فتكون صلاة تحية المسجد قبل تحية من يكون متواجدا من الناس بالمسجد ، فإن تلك حق الله تعالى ، والسلام على الخلق حق لهم ، وحق الله فى هذا المقام أحق بالتقديم ، بخلاف الحقوق المالية فإن فيها نزاعا معروفا ــ بين العلماء ــ ، والفرق بينهما حاجة الآدمى وعدم اتساع الحق المالى لأداء الحقين بخلاف السلام ، والسيرة النبوية المشرفة تبين أن عادة القوم معه كانت هكذا : يدخل أحدهم المسجد فيصلى ركعتين ثم يجىء فيسلم على النبى وهذا ما يدلنا عليه حديث المسئ صلاته ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه : أَنَّ رَجُلا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ جَالِسٌ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ رَسُـــــولُ اللَّهِ : " وَعَلَيْكَ السَّلامُ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ " ... وذكر الحديث ( [4] ) فأنكر عليه صلاته ، ولم ينكر عليه تأخير السلام عليه إلى ما بعد الصلاة. ( [5] )
وقد أجمع المسلمون علي أن صلاة تحية المسجد سـنة ، وإن كان قد حكي عن البعض ـ الْقَاضِي عِيَاض عَنْ دَاوُدَ وَأَصْحَابه ـ أنها واجبة ، فعن أَبِي قَتَادَةَ السَّلَمِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : " إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ " وَفِي الرِّوَايَة الأُخْرَى : " فَلا يَجْلِس حَتَّى يَرْكَع رَكْعَتَيْنِ ". ( [6] )
ففي هذا الحديث : استحباب تحية المسجد بركعتين ، وهي سنة بإجماع المسلمين ، وحكى وجوبهما .
وفيه : التصريح بكراهة الجلوس بلا صلاة وهي كراهة تنزيه . وفيه : استحباب التحية في أي وقت دخل ، وبه قال جماعة ، وكرهها البعض كأبي حنيفة والأوزاعي والليث فِي وَقْت النَّهْي ( [7] ) وأجاب غيرالمانعين : أن النهي إنما هو عما لا سبب له ؛ لأن النبي صلى بعد العصر ركعتين قضاء سنة الظهر ، فخص وقت النهي وصلى به ذات السبب . وكان من هديه أنه لم يترك صلاة التحية في حال من الأحوال ، بل أمر الذي دخل المسجد يوم الجمعة وهو يخطب فجلس أن يقوم فيركع ركعتين ، مع أن الصلاة في حال الخطبة ممنوع منها ، فعن جابررضي الله عنه : أن رجلا جاء يوم الجمعة والنبي يخطب فقال : " أَصَلَّيْت يَا فُلان ؟ قَالَ : لا. قال : " قُمْ فَارْكَعْ "، فعلم أن صلاة تحية المسجد مسـتثناة من هذا المنع ، وأن الخطبة لا تمنع الداخل من صلاة تحية المسجد ... واستدل به أيضا على جواز صلاة التحية في الأوقات المكروهة ، لأنها إذا لم تسقط في الخطبة مع الأمر بالإنصات لها فغيرها أولى . ( [8] )
فلو كانت التحية تترك في حال من الأحوال لتركت الآن ؛ لأن الرجل قعد وهي مشروعة قبل القعود ؛ ولأنه كان يجهل حكمها ، ولأن النبي قطع خطبته وكلمه وأمره أن يقوم ويصلي التحية ، فلولا شدة الاهتمام بالتحية في جميع الأوقات لما اهتم هذا الاهتمام .( [9] )
يؤيد ذلك مارواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي ذر أنه دخل المسجد فقال له النبي : " أَرَكَعْت رَكْعَتَيْنِ ؟ " قَالَ : لا ، قَالَ : " قُمْ فَارْكَعْهُمَا " . ترجم عليه ابن حبان أن تحية المسجد لا تفوت بالجلوس ، وأما إطلاق من أطلق أن التحية تفوت بالجلوس فقد حكى النووي في شرح مسلم عن المحققين أن ذلك في حق العامد العالم ، أما الجاهل أو الناسي فلا . ( [10] )
قَالَ الْقَارِي فِي الْمِرْقَاةِ : وما يفعله بعض العوام من الجلوس أولا إذا دخل المسجد والإمام يخطب ثم القيام ثانيا للصلاة ، أثناء الاستراحة بين الخطبتين ، فهذا التصرف باطل لا أصل له .
وعليه فإنه كما قَالَ صَاحِبُ عَوْنِ الْمَعْبُودِ ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ ،فإن فيه : من الفقه أنه إذا دخل المسجد كان عليه أن يصلي ركعتين تحية المسجد ــ تعظيما للمسجد ــ قبل أن يجلس ، وسواء كان ذلك في جمعة أو غيرها ، كان الإمام على المنبر أو لم يكن لأن النبي عم ولم يخص . ( [11] )
ومن شـدة حرص الفقهاء علي ضرورة صلاة التحية ، نجد أن الإمام الشافعي مثلا ، أنه في حالة ما إذا كان الداخل في آخر الخطبة ، قال الشافعي : أرى للإمام أن يأمر الآتي بالركعتين ويزيد في كلامه ما يمكنه الإتيان بهما قبل إقامة الصلاة ، فإن لم يفعل كرهت ذلك . وحكى النووي عن المحققين أن المختار إن لم يفعل أن يقف حتى تقام الصلاة لئلا يكون جالسا بغير تحية أو متنفلا حال إقامة الصلاة . ( [12] )أما الإمام : اتفقوا على سقوط التحية عنه مع كونه يجلس على المنبر ومع أن له ابتداء الكلام في الخطبة دون المأموم . ( [13] )أما عن كيفية صلاة التحية :فقد ترجم البخاري علي ذلك : ( باب مَنْ جَاءَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ) لكن لم يقع في الحديث الذي ذكره التقييد بكونهما خفيفتين ، إلا أن المصنف جرى على عادته في الإشارة إلى ما في بعض طرق الحديث فقد روي عن جابر في السنن بلفظ " قم فاركع ركعتين خفيفتين " وعند مسلم بلفظ " وتجوز فيهما " . ( [14] )أما مسلم فقد ترجم علي ذلك : " بَاب التَّحِيَّةُ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ " وشفعها بأحاديث الباب ومنها : " إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا " ( [15] ) وهذه الأحاديث كلها صريحة في الدلالة أنه إذا دخل الجامع يوم الجمعة والإمام يخطب استحب له أن يصلي ركعتين تحية المسجد ، ويكره الجلوس قبل أن يصليهما ، وأنه يستحب أن يتجوز فيهما ليسمع بعدهما الخطبة .وفيها أن تحية المسجد ركعتان وأن نوافل النهار ركعتان وأن تحية المسجد لا تفوت بالجلوس في حق جاهل حكمها ، والمستنبط من هذه الأحاديث أن تحية المسجد لا تترك في أوقات النهي عن الصلاة وأنها ذات سبب تباح في كل وقت . لأنها لو سقطت في حال لكان هذا الحال أولى بها فإنه مأمور باستماع الخطبة . فلما ترك لها استماع الخطبة وقطع النبي لها الخطبة وأمره بها بعد أن قعد وكان هذا الجالس جاهلا حكمها دل على تأكدها وأنها لا تترك بحال ولا في وقت من الأوقات . ( [16] )وعلي الجانب الآخر فإنه لو صلى على جنازة أو سجد شكرا أو سجد للتلاوة أو صلى ركعة بنية التحية لم تحصل التحية على الصحيح ؛ لأن المراد إكرام المسجد ولا يحصل بذلك ، لأنه خلاف ظاهر الحديث .
النية :
ولا يشترط أن ينوي التحية ، بل تكفيه ركعتان من فرض أو سنة راتبة أو غيرهما ، لو نوى بصلاته التحية والمكتوبة ، أو لو نوى بصلاته التحية والأخرى ، انعقدت صلاته وحصلتا له.
واستثنى المحاملي المسجد الحرام لأن تحيته الطواف ، والذي يظهر من قولهم إن تحية المسجد الحرام الطواف إنما هو في حق القادم ليكون أول شيء يفعله الطواف ، فالْمَسْجِد الْحَرَام أَوَّل مَا يَدْخُلهُ الْحَاجّ أو المعتمر ، يَبْدَأ بِطَوَافِ الْقُدُوم فَهُوَ تَحِيَّته ، وَيُصَلِّي بَعْده رَكْعَتَيْ الطَّوَاف .( [17] )
وأما المقيم فحكم المسجد الحرام وغيره في ذلك سواء ، ولعل قول من أطلق أنه يبدأ في المسجد الحرام بالطواف لكون الطواف يعقبه صلاة الركعتين فيحصل شغل البقعة بالصلاة غالبا وهو المقصود ، ويختص المسجد الحرام بزيادة الطواف. ( )
ولقد أكثر الله سبحانه وتعالي من ذكر الصلاة في كتابه الكريم ، وعظم شأنها ، وأمر بالمحافظة عليها وأدائها في الجماعة .
وقد بينت السنة النبوية فضل صلاة الجماعة فى أحاديث كثيرة منها حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنهقال : قَالَ رَسُولَ اللَّهِ : " صَلاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلاةَ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَة " ( [2] ) وقد انفزدت رواية ابْنِ عُمَرَ بأنها تفضل : " ًبِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً " ( [3] )
وقد أحصى بعضُ الشارحين سبعا وعشرين فضيلة لصلاة الجماعة ، وقد سبق لنا فى خطب سابقة إلقاء الضوء على بعض منها ، بدأًًًًًًً بالفضيلة الأولى وهى ترديد الأذان خلف المؤذن . ثم ثنينا بـ" التَّهْجِير" أَيْ التَّبْكِير بالذهاب إلى المسـجد ثم الثالثة وهى المشى إلى المسجد بالسـكينة والوقار ، ثم الرابعة وهي دخول المسجد داعيا ، كل ذلك بنية الصلاة في الجماعة ، واليوم بفضل الله تعالى مع الخامسة من الفضائل السبع والعشرين لصلاة الجماعة ، ألا وهى : صلاة تحية المسجد .
عرفنا في الأسبوع الماضي أنلداخل المسجد إن كان فيه جماعة ثلاث تحيات متواليات :
· الأولي أن يدخل برجله اليمني ويقول عند دخوله : بسم الله والصلاة والسلام على رسـول الله اللهم اغفر لي وافتح لي أبواب رحمتك ، أو غير ذلك من أذكار كثيرة ، ثبتت عن رسول الله في موطن الدخول إلى المسـجد .
· ثم يصلى ركعتين تحية المسجد وهي الثانية· ثم يسلم على القوم وهي الثالثة .
فهديه أن الداخل إلى المسجد يبتدئ بركعتين تحية المسجد ، ثم يجىء فيسلم على القوم ، فتكون صلاة تحية المسجد قبل تحية من يكون متواجدا من الناس بالمسجد ، فإن تلك حق الله تعالى ، والسلام على الخلق حق لهم ، وحق الله فى هذا المقام أحق بالتقديم ، بخلاف الحقوق المالية فإن فيها نزاعا معروفا ــ بين العلماء ــ ، والفرق بينهما حاجة الآدمى وعدم اتساع الحق المالى لأداء الحقين بخلاف السلام ، والسيرة النبوية المشرفة تبين أن عادة القوم معه كانت هكذا : يدخل أحدهم المسجد فيصلى ركعتين ثم يجىء فيسلم على النبى وهذا ما يدلنا عليه حديث المسئ صلاته ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه : أَنَّ رَجُلا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ جَالِسٌ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ رَسُـــــولُ اللَّهِ : " وَعَلَيْكَ السَّلامُ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ " ... وذكر الحديث ( [4] ) فأنكر عليه صلاته ، ولم ينكر عليه تأخير السلام عليه إلى ما بعد الصلاة. ( [5] )
وقد أجمع المسلمون علي أن صلاة تحية المسجد سـنة ، وإن كان قد حكي عن البعض ـ الْقَاضِي عِيَاض عَنْ دَاوُدَ وَأَصْحَابه ـ أنها واجبة ، فعن أَبِي قَتَادَةَ السَّلَمِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : " إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ " وَفِي الرِّوَايَة الأُخْرَى : " فَلا يَجْلِس حَتَّى يَرْكَع رَكْعَتَيْنِ ". ( [6] )
ففي هذا الحديث : استحباب تحية المسجد بركعتين ، وهي سنة بإجماع المسلمين ، وحكى وجوبهما .
وفيه : التصريح بكراهة الجلوس بلا صلاة وهي كراهة تنزيه . وفيه : استحباب التحية في أي وقت دخل ، وبه قال جماعة ، وكرهها البعض كأبي حنيفة والأوزاعي والليث فِي وَقْت النَّهْي ( [7] ) وأجاب غيرالمانعين : أن النهي إنما هو عما لا سبب له ؛ لأن النبي صلى بعد العصر ركعتين قضاء سنة الظهر ، فخص وقت النهي وصلى به ذات السبب . وكان من هديه أنه لم يترك صلاة التحية في حال من الأحوال ، بل أمر الذي دخل المسجد يوم الجمعة وهو يخطب فجلس أن يقوم فيركع ركعتين ، مع أن الصلاة في حال الخطبة ممنوع منها ، فعن جابررضي الله عنه : أن رجلا جاء يوم الجمعة والنبي يخطب فقال : " أَصَلَّيْت يَا فُلان ؟ قَالَ : لا. قال : " قُمْ فَارْكَعْ "، فعلم أن صلاة تحية المسجد مسـتثناة من هذا المنع ، وأن الخطبة لا تمنع الداخل من صلاة تحية المسجد ... واستدل به أيضا على جواز صلاة التحية في الأوقات المكروهة ، لأنها إذا لم تسقط في الخطبة مع الأمر بالإنصات لها فغيرها أولى . ( [8] )
فلو كانت التحية تترك في حال من الأحوال لتركت الآن ؛ لأن الرجل قعد وهي مشروعة قبل القعود ؛ ولأنه كان يجهل حكمها ، ولأن النبي قطع خطبته وكلمه وأمره أن يقوم ويصلي التحية ، فلولا شدة الاهتمام بالتحية في جميع الأوقات لما اهتم هذا الاهتمام .( [9] )
يؤيد ذلك مارواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي ذر أنه دخل المسجد فقال له النبي : " أَرَكَعْت رَكْعَتَيْنِ ؟ " قَالَ : لا ، قَالَ : " قُمْ فَارْكَعْهُمَا " . ترجم عليه ابن حبان أن تحية المسجد لا تفوت بالجلوس ، وأما إطلاق من أطلق أن التحية تفوت بالجلوس فقد حكى النووي في شرح مسلم عن المحققين أن ذلك في حق العامد العالم ، أما الجاهل أو الناسي فلا . ( [10] )
قَالَ الْقَارِي فِي الْمِرْقَاةِ : وما يفعله بعض العوام من الجلوس أولا إذا دخل المسجد والإمام يخطب ثم القيام ثانيا للصلاة ، أثناء الاستراحة بين الخطبتين ، فهذا التصرف باطل لا أصل له .
وعليه فإنه كما قَالَ صَاحِبُ عَوْنِ الْمَعْبُودِ ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ ،فإن فيه : من الفقه أنه إذا دخل المسجد كان عليه أن يصلي ركعتين تحية المسجد ــ تعظيما للمسجد ــ قبل أن يجلس ، وسواء كان ذلك في جمعة أو غيرها ، كان الإمام على المنبر أو لم يكن لأن النبي عم ولم يخص . ( [11] )
ومن شـدة حرص الفقهاء علي ضرورة صلاة التحية ، نجد أن الإمام الشافعي مثلا ، أنه في حالة ما إذا كان الداخل في آخر الخطبة ، قال الشافعي : أرى للإمام أن يأمر الآتي بالركعتين ويزيد في كلامه ما يمكنه الإتيان بهما قبل إقامة الصلاة ، فإن لم يفعل كرهت ذلك . وحكى النووي عن المحققين أن المختار إن لم يفعل أن يقف حتى تقام الصلاة لئلا يكون جالسا بغير تحية أو متنفلا حال إقامة الصلاة . ( [12] )أما الإمام : اتفقوا على سقوط التحية عنه مع كونه يجلس على المنبر ومع أن له ابتداء الكلام في الخطبة دون المأموم . ( [13] )أما عن كيفية صلاة التحية :فقد ترجم البخاري علي ذلك : ( باب مَنْ جَاءَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ) لكن لم يقع في الحديث الذي ذكره التقييد بكونهما خفيفتين ، إلا أن المصنف جرى على عادته في الإشارة إلى ما في بعض طرق الحديث فقد روي عن جابر في السنن بلفظ " قم فاركع ركعتين خفيفتين " وعند مسلم بلفظ " وتجوز فيهما " . ( [14] )أما مسلم فقد ترجم علي ذلك : " بَاب التَّحِيَّةُ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ " وشفعها بأحاديث الباب ومنها : " إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا " ( [15] ) وهذه الأحاديث كلها صريحة في الدلالة أنه إذا دخل الجامع يوم الجمعة والإمام يخطب استحب له أن يصلي ركعتين تحية المسجد ، ويكره الجلوس قبل أن يصليهما ، وأنه يستحب أن يتجوز فيهما ليسمع بعدهما الخطبة .وفيها أن تحية المسجد ركعتان وأن نوافل النهار ركعتان وأن تحية المسجد لا تفوت بالجلوس في حق جاهل حكمها ، والمستنبط من هذه الأحاديث أن تحية المسجد لا تترك في أوقات النهي عن الصلاة وأنها ذات سبب تباح في كل وقت . لأنها لو سقطت في حال لكان هذا الحال أولى بها فإنه مأمور باستماع الخطبة . فلما ترك لها استماع الخطبة وقطع النبي لها الخطبة وأمره بها بعد أن قعد وكان هذا الجالس جاهلا حكمها دل على تأكدها وأنها لا تترك بحال ولا في وقت من الأوقات . ( [16] )وعلي الجانب الآخر فإنه لو صلى على جنازة أو سجد شكرا أو سجد للتلاوة أو صلى ركعة بنية التحية لم تحصل التحية على الصحيح ؛ لأن المراد إكرام المسجد ولا يحصل بذلك ، لأنه خلاف ظاهر الحديث .
النية :
ولا يشترط أن ينوي التحية ، بل تكفيه ركعتان من فرض أو سنة راتبة أو غيرهما ، لو نوى بصلاته التحية والمكتوبة ، أو لو نوى بصلاته التحية والأخرى ، انعقدت صلاته وحصلتا له.
واستثنى المحاملي المسجد الحرام لأن تحيته الطواف ، والذي يظهر من قولهم إن تحية المسجد الحرام الطواف إنما هو في حق القادم ليكون أول شيء يفعله الطواف ، فالْمَسْجِد الْحَرَام أَوَّل مَا يَدْخُلهُ الْحَاجّ أو المعتمر ، يَبْدَأ بِطَوَافِ الْقُدُوم فَهُوَ تَحِيَّته ، وَيُصَلِّي بَعْده رَكْعَتَيْ الطَّوَاف .( [17] )
وأما المقيم فحكم المسجد الحرام وغيره في ذلك سواء ، ولعل قول من أطلق أنه يبدأ في المسجد الحرام بالطواف لكون الطواف يعقبه صلاة الركعتين فيحصل شغل البقعة بالصلاة غالبا وهو المقصود ، ويختص المسجد الحرام بزيادة الطواف. ( )
وصلي اللهم وسلم وبارك علي محمد
وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
[1] البينة 5
[2]صحيح البخاري ج 3 / ص 34
[3]صحيح البخاري ج 3 / ص 35
[4] صحيح البخاري ج 19 / ص 276
[5]زاد المعاد 2/ 376
[6] صحيح البخاري ج 2 / ص 228
[7] راجع أوقات النهى فى نيل الأوطار ج 4 / ص 425
[8]فتح الباري لابن حجر 3/ 339
[9] نيل الأوطار ج 4/ ص 370
[10]فتح الباري لابن حجر 3/ 339
[11] عون المعبود شرح سنن أبى داود ج1 ص 497 حديث رقم395
[15]صحيح مسلم 4/ 374
[16]شرح النووي على مسلم 3/ 256
[17] شرح النووى على مسلم 3/34 ، فتح الباري لابن حجر 3/ 339