بسم الله الرحمن الرحيم
بديع ما قرأت وتأثرت به، قول أحد الصالحين وهو يناجي ربه في ضراعة: (عَميتْ عين لم تَركَ عليها رقيباً.. وخسرت صفقة عبدٍ لم يجعل له من حبك نصيبا..)
وتوقفت عند هذه الكلمات طويلا لا سيما وقد وجدت صداها واضحا في نفسي..
ووجدتني أتناول ورقة بقربي، ثم أكتب مستعيناً بالله:
عَميتْ عين لم تَركَ عليها رقيباً..
نعم.. فإنها إذا رأتك رقيباً مُلازماً لها، مطلعاً عليها، لم تغفل عنك لحظة وإذا لم تغفل عنك، ستظل ذاكرة لك مع الأنفاس، وإذا ظلت مشتغلة بالذكر والفكر والحضور..
فكيف إذن تتجرأ على المعصية؟!!!
نعم لن تصبح معصومة، ولكن غفلتها ستكون سريعة وعارضة، لتعود بعد ذلك في جزع وفزع إلى رحابك يا الله
فأنت وليها ومولاها وخير من زكاها، وليس لها غيرك..
ولا تعرف باباً غير بابك، ولا طريقا غير طريقك..
وأحسبها حين تبقى مراقبة لك، سوف تستأنس بك، وتلتذ معك، وستندفع في شوق إلى الطاعات فرحة بتوفيقك لها إليها مبادرة إلى الفرائض في أوائل وقتها، والطاعات في شتى ميادينها، فإذا تعلقت بالفرائض جميعها في فرح..
أقبلت على النوافل في حب وشوق ولهفة..
وإذا نهلت جيداً من عيون النوافل المتنوعة، نالت محبتك، وهي قرة عينها، ومنى نفسها، وغاية منتهاها..
فإن حصل لها ذلك: أشرقت بصيرتها، وأضاءت سريرتها..
وقد قلت وقولك الحق ووعدك الصدق: (ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه..).
هناك تجد أنسها وطمأنينتها وراحتها وأمنها وأمانها وسعادتها الحقيقية فإذا ذاقت ذلك، ووجدت طعم الأنس بك والضراعة بين يديك: لم تبال بعدها بالدنيا إن أقبلت أو هجرت، إن أمطرت لها، أو أجدبت عنها.
إذ أن عين القلب يومها تكون قد تعلقت بالآخرة ومباهجها، فكأنها رأي عين، تستشعر نعيم الجنات يملأ عليها جوانحها.
– وهي بعد تدب على الأرض تكدح عليها كدحها المفروض –
غير أنها تتنفس الصعداء، وتهتف في يقين: (نحن في لذة لو عرفها الملوك وأبناء الملوك لقاتلونا عليها بالسيوف).
ويومها تجد نفسك تكاد تصرخ في قوة وحرارة ودفء: (أنا بستاني في صدري، وجنتي في قلبي..
سجني خلوة، ونفيي سياحة، وقتلي شهادة في سبيل الله).
وربما هتفت في حالة فيض قلبي خالص: (مساكين أهل الدنيا!! خرجوا منها ولم يذوقوا أحلى ما فيها..
طاعة الله والتلذذ بذكره).
أو لعلك تهتف في ذهول وانتشاء: (كيف لا تكون التكاليف حلوة المذاق، إذا كانت موصلة إليك يا ملك السماوات والأرضين؟!).
نعم يا ربنا.. عَميتْ عين لم تَركَ عليها رقيباً.. غير أنا لا نستطيع ذلك، إلا بتأييدك ومعونتك، فارحمنا..
نعلن لك بين يديك عن إفلاسنا وعجزنا وغلبة أهوائنا، فإذا لم توفقا إلى ذلك
فمن لنا غيرك؟
وباب من نطرق غير بابك؟
أنت مولانا نعم المولى ونعم الوكيل..
ثقتنا بك أنك لن ضيعنا ما دامت قلوبنا مشدودة إليك رغم تفريطنا في حقك فوالله أنك أحب إلينا من الهواء والغذاء والولد والبلد، وأحب إلى قلوبنا من الماء البارد على الظمأ..
قد سعينا إليك، ووقفنا على بابك، ولن نبرح واقفين متذللين على أعتابك..
ومع هذا.. فإن اعتمادنا عليك، ليس على سعينا..
ويا خيبة المسعى إذا لم تُسعفِ..
سنعزم على المحاولة المستمرة بلا يأس حتى نعذر إليك..
فإن وفقنا، فبتوفيقك.. وإن خبنا، فبشقائنا..
وإن زللنا وهفونا، فإنا راجعون إليك، لأنه لا رب لنا سواك، ولا إله لنا غيرك إنما نستعلي على شهواتنا وفتن الدنيا بمعونتك ومددك وحولك وقوتك وإلا فإن التردي والسقوط هو الأمر المتوقع منا..
لأن قبضة الطين فينا لا تزال تشدنا إلى طين الأرض!!
فيا ربنااقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك..
ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا..
اللهم آمين.. اللهم آمين..
وصلى الله وسلم على رسوله ومصطفاه محمد وعلى آله وصحبه وسلم.