الباب الثاني
فضائل صلاة الجماعة السبع والعشرين
الفصل الرابع :
دخول المسجد داعيا بنية الصلاة في الجماعة
الحمد لله الذى امتن على عباده المؤمنين بما دلهم عليه من معرفته ، وشرح صدورهم للإيمان به ، والإخلاص بالتوحيد لربوبيته ، ففرض جل ثناؤه عليهم فرائضه ، فلا نعمة أعظم على المؤمنين بالله من نعمة الإيمان ، والخضوع لربوبيته ، ثم النعمة الأخرى ما افترض عليهم من الصلاة خضوعا لجلاله ، وخشوعا لعظمته ، وتواضعا لكبريائه ، فقال سبحانه وتعالي : " وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ " ( [1] ) فلم يفترض عليهم بعد توحيده ، والتصديق برسله ، وما جاء من عنده فريضة آكد من الصلاة .
ولقد أكثر سبحانه وتعالي من ذكر الصلاة في كتابه الكريم ، وعظم شأنها ، وأمر بالمحافظة عليها وأدائها في الجماعة .وقد بينت السنة النبوية فضل صلاة الجماعة فى أحاديث كثيرة منها حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قال : قَالَ رَسُولَ اللَّهِ: " صَلاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلاةَ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَة " ( [2] ) وقد انفردت رواية ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهبأنها تفضل : " ًبِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً " ( [3] )وقد أحصى بعضُ الشارحين سبعا وعشرين فضيلة لصلاة الجماعة ، وقد سبق لنا فى خطب سابقة إلقاء الضوء على بعض منها ، بدأًًًًًًً بالفضيلة الأولى وهى ترديد الأذان خلف المؤذن ، ثم ثنينا بـ" التَّهْجِير" أَيْ التَّبْكِير بالذهاب إلى المسـجد ثم الثالثة وهى المشى إلى المسجد بالسـكينة والوقار كل ذلك بنية الصلاة في الجماعة ، واليوم بفضل الله تعالى مع الرابعة من الفضائل السبع والعشرين لصلاة الجماعة ، ألا وهى دخول المسجد داعيا بنية الصلاة في الجماعة. وقد ترجم البخارى فى ذلك بابا بعنوان : " بَاب التَّيَمُّنفِي دُخُول الْمَسْجِد وَغَيْره " هكذا بت الحكم في هذه المسألة ، فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ :" كَانَ النَّبِيُّيُحِبُّ التَّيَمُّنَ مَا اسْتَطَاعَ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ فِي طُهُورِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَتَنَعُّلِهِ"( [4] ) قوله : ( يحب التيمن ) أي الشروع باليمين ، و الابتداء في الأفعال والرجل اليمنى والجانب الأيمن في أموره اللائقة بذلك ، قيل لأنه كان يحب الفأل الحسن إذ أصحاب اليمين أهل الجنة( [5] ) وروي بلفظ ( يحب التيامن) أي استعمال اليمين فيما يصلح لذلك ، كما ورد في حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها عند النسائي قَالَتْ : " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُحِبُّ التَّيَامُنَ يَأْخُذُ بِيَمِينِهِ وَيُعْطِي بِيَمِينِهِ وَيُحِبُّ التَّيَمُّنَ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ " ( [6] ) أي أن الابتداء باليمين لم يعهد فيه المقارنة ، ويكون من باب التشريف ، بخلاف غسل الوجه ومسح الرأس والأذنين فإن المعهود في هذه الأشياء قران اليسار باليمين بخلاف الخروج من المسجد والدخول فيه فإن أمثالهما ليست من باب التشريف فالبداية باليسار فيها عند الخروج أحق . ( [7] )قوله : ( في طهوره ) بالضم ويفتح والمراد به المصدر( وفي ترجله ) أي امتشاطه الشعر من اللحية والرأس . ( وانتعاله ) أي لبس نعله .وفي رواية عند مسلم (وسواكه ) . فكان هديه التيمن في طهوره إذا تطهر ، وفي ترجله إذا ترجل ، وفي انتعاله إذا انتعل ، وفي سواكه إذا تسـوك ... الخ .
( وهذه قاعدة مستمرة في الشرع ، وهي إن ما كان من باب التكريم والتشريف كلبس الثوب والسراويل والخف ودخول المسجد والسواك والاكتحال ، وتقليم الأظفار ، وقص الشارب ، وترجيل الشعر وهو مشطه أي تمشيطه ، ونتف الإبط ، وحلق الرأس ، والسلام من الصلاة ، وغسل أعضاء الطهارة ، والخروج من الخلاء ، والأكل والشرب ، والمصافحة ، واستلام الحجر الأسود ، وغير ذلك مما هو في معناه يستحب التيامن فيه . وأما ما كان بضده كدخول الخلاء والخروج من المسجد والامتخاط والاستنجاء وخلع الثوب والسراويل والخف وما أشبه ذلك ، فيستحب التياسر فيه ، وذلك كله بكرامة اليمين وشرفها . والله أعلم .
( وأجمع العلماء على أن تقديم اليمين على اليسار من اليدين والرجلين في الوضوء سنة ، لو خالفها فاته الفضل ، وصح وضوؤه
( واعلم أن الابتداء باليسار إن كان مجزيا فهو مكروه ، نص عليه الشافعي ، وهو ظاهر . وقد ثبت في سنن أبي داود والترمذي وغيرهما بأسانيد حميدة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : " إذا لبستم أو توضأتم فابدءوا بأيامنكم " . فهذا نص في الأمر بتقديم اليمين ، ومخالفته مكروهة أو محرمة ، وقد انعقد إجماع على أنها ليست محرمة ، فوجب أن تكون مكروهة . ثم اعلم أن من أعضاء الوضوء ما لا يستحب فيه التيامن ، وهو الأذنان والكفان والخدان بل يطهران دفعة واحدة ، فإن تعذر ذلك كما في حق الأقطع ونحوه ؛ قدم اليمين . والله أعلم . ) ( [8] )
نعود غلي موضوعنا الرئيس ، وهو دخول المسجد داعيا بنية الصلاة في الجماعة ففِي الْمُسْتَدْرَك لِلْحَاكِمِ عَنْ أَنَس بن مالك رضي الله عنهأَنَّهُ كَانَ يَقُول: " مِنْ السُّنَّة إِذَا دَخَلْت الْمَسْجِد أَنْ تَبْدَأ بِرِجْلِك الْيُمْنَى ، وَإِذَا خَرَجْت أَنْ تَبْدَأ بِرِجْلِك الْيُسْرَى " ( [9] )
وَعلى ذلك فإن المسلم إذا دخل المسجد يبدأ برجله اليمنى ، وإذا خرج يخرج برجله اليسرى ،أما قول السيدة عائشة رضي الله عنها : " كَانَ النَّبِيُّيُحِبُّ التَّيَمُّنَ مَا اسْتَطَاعَ "فـ " مَا اِسْتَطَاعَ " إشارة إلى شدة المحافظة على التيمن ( [10] ) أو أنه احتراز عما لا يستطاع فيه التيمن شرعا كدخول الخلاء والخروج من المسجد ، وكذا تعاطي الأشياء المستقذرة باليمين كالاستنجاء والتمخط .
ويسـن لداخل المسجد أذكارا ، فعَنْ أَبِي أُسَيْدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ وَإِذَا خَرَجَ فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ " ( [11] ) وفى سـنن أبى داوود يسلم على النبى قبل دعاء الدخول ، فعَنْ أَبَى هُرَيْرَة رضي الله عنهأَنَّ رَسُول اللَّه َ قَالَ : " إِذَا دَخَلَ أَحَدكُمْ الْمَسْجِد فَلْيُسَلِّمْ عَلَى النَّبِيّ ثُمَّ لِيَقُلْ اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ فَإِذَا خَرَجَ فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ "( [12] ) وفى سنن ابن ماجه مثله ولكن بزيادة الاستعاذة من الشيطان الرجيم قال : "َ ... إِذَا خَرَجَ فَلْيُسَلِّمْ عَلَى النَّبِيِّ وَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ اعْصِمْنِي مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ "( [13] )
وقد جاءت في هذا الموطن ــ الدخول إلى المسـجد ــ أذكار كثيرة غير هذا في سنن أبي داود وغيره ، وقد جمعها الإمام النووى مفصلة في أول كتاب الأذكار، ومختصر مجموعها : ( أَعُوذ بِاَللَّهِ الْعَظِيم وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيم وَسُلْطَانه الْقَدِيم مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيم بِسْمِ اللَّه وَالْحَمْد لِلَّهِ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِ مُحَمَّد وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَاب رَحْمَتك ) وَفِي الْخُرُوج يَقُولهُ ، لَكِنْ يَقُول : " اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلك مِنْ فَضْلك " ( [14] )
قال الطيبي : لعل السر في تخصيص الرحمة بالدخول والفضل بالخروج لأن الدخول وضع لتحصيل الرحمة والمغفرة ، فمن دخل اشتغل بما يزلفه إلى ثواب الله وجنته . فيناسب ذكر الرحمة ، وخارج المسجد هو محل الطلب للرزق ، فإذا خرج اشتغل بابتغاء الرزق الحلال فناسب ذكر الفضل ، كما قالسبحانه وتعالي ( [15] ) : " ... فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ "( [16] )
وهنا لطيفة نستشعرها من حديث فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ عَنْ جَدَّتِهَا فَاطِمَةَ الْكُبْرَى رضى الله عنهم أجمعينقَالَتْ : " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ وَقَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ وَإِذَا خَرَجَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ وَقَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِكَ "فبالإضافة إلى أنه : عند دخول المسجد وعند الخروج منه ، يعتبر موطنا من مواطن الصلاة على النبي كما قال الحافظ ابن القيم في جلاء الأفهام ( الموطن الثامن ) ففيه تشريع للأمة وبيان بأن حكمه حكم الأمة حتى في ابتغاء السلام على نفسه ، إلا ما خصه الدليل ، قال القاري في المرقاة : ثم حكمته بعد تعليم أمته أنه كان يجب عليه الإيمان بنفسه كما كان يجب على غيره فكذا طلب منه تعظيمها . ( [17] )
وإنما شرع السلام على رسول الله عند دخول المصلِِّى المسجد وعند خروجه لأنه هوالسبب في دخول المصلِّى المسجد ووصول الخير العظيم إليه ، فينبغي أن يذكره بالخير. ( [18] )
*** *** ***
ومن هديه أن الداخل إلى المسجد يبتدئ بركعتين تحية المسجد ، ثم يجىء فيسلم على القوم ، فتكون تحية المسجد قبل تحية أهل المسجد ، فإن تلك حق الله تعالى ، والسلام على الخلق حق لهم ، وحق الله فى هذا المقام أحق بالتقديم ، بخلاف الحقوق المالية فإن فيها نزاعا معروفا ــ بين العلماء ــ ، والفرق بينهما حاجة الآدمى وعدم اتساع الحق المالى لأداء الحقين بخلاف السلام ، وكانت عادة القوم معه هكذا : يدخل أحدهم المسجد فيصلى ركعتين ثم يجىء فيسلم على النبى وهذا ما ما يدلنا عليه حديث المسئ صلاته ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه : أَنَّ رَجُلا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ جَالِسٌ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ : " وَعَلَيْكَ السَّلامُ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ " ... وذكر الحديث ( [19] ) فأنكر عليه صلاته ، ولم ينكر عليه تأخير السلام عليه إلى ما بعد الصلاة. وعلى هذا فيسـن لداخل المسجد إن كان فيه جماعة ثلاث تحيات متواليات : · الأولي أن يدخل برجله اليمني ويقول عند دخوله : بسم الله والصلاة والسلام على رسـول الله اللهم اغفر لي وافتح لي أبواب رحمتك · ثم يصلى ركعتين تحية المسجد وهي الثانية · ثم يسلم على القوم وهي الثالثة . ( [20] ) ثلاث فضائل من فضائل صلاة الجماعة السبعة والعشرين ، كل فضيلة منها تضم عدة فوائد ، أو قل تشتمل علي عدة فضائل ثانوية ، يتفاوت المسلمون في تحصيل درجاتها ، حسب تفاوت جهودهم المبذولة فيها . وهكذا ما من رجل يتوضأ فيحسن الوضوء ، ويردد مع المؤذن كلمات الأذان ، بنية الإجابة وأداء الصلاة فى الجماعة ، ثم يمشى إلى المسجد بالسكينة والوقار ، لا ينهزه الا الصلاة ، لا يريد إلا الصلاة ، إلا كتب له بكل خطوة درجة وحط عنه خطيئة حتى يدخل المسجد داعيا أن يزلفه الله إلى جنته ، بعد أن يكون قد دعى لنبيه الذى لولاه ــ بعد الله ــ ما اهتدينا ولا صلينا ، فإذا دخل المسجد صلى ما قدر له الله أن يصلى ، كل ذلك بنية الصلاة في الجماعة ... انتظارا لصلاة الجماعة ، إن وفقه الله إلى ذلك ، كان في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه والملائكة تصلي عليه ما دام في مسجده الذي صلى فيه ، و" ... غُفِرَ لَهُ مَا خَلا مِنْ ذَنْبِهِ "( [21] )
[1] البينة 5
[2]صحيح البخاري ج 3 / ص 34
[3]صحيح البخاري ج 3 / ص 35
[4] صحيح البخاري ج 2 / ص 199حديث 408
[5]عون المعبود 9/ 175
[6] سنن النسائي 15/ 280
[7] حاشية السندي على ابن ماجه 1/ 365 [8] شرح النووي على مسلم 1/ 427
[9] المستدرك على الصحيحين للحاكم ج 2 / ص 297
[10]شرح النووي على مسلم 1/ 428
[11] صحيح مسلم ج 4 / ص 28
[12]سنن أبي داود ج 2 / ص 55
[13] سنن ابن ماجه ج 2 / ص 490
[14] شرح النووى على مسلم 3/33الحديث 1165
[15] الجمعة من الآية 10
[16] عون المعبود شرح الحديث رقم 393 سنن أبو داود
[17] تحفة الأحوذى ج 1 / ص 343 شرح الحديث رقم 289شرح سنن الترمذى
[18] حاشية السندى الحديث 736 ابن ماجه
[19] صحيح البخاري ج 19 / ص 276
[20]زاد المعاد 2/ 376
[21] صحيح مسلم ج 2 / ص 18
فضائل صلاة الجماعة السبع والعشرين
الفصل الرابع :
دخول المسجد داعيا بنية الصلاة في الجماعة
الحمد لله الذى امتن على عباده المؤمنين بما دلهم عليه من معرفته ، وشرح صدورهم للإيمان به ، والإخلاص بالتوحيد لربوبيته ، ففرض جل ثناؤه عليهم فرائضه ، فلا نعمة أعظم على المؤمنين بالله من نعمة الإيمان ، والخضوع لربوبيته ، ثم النعمة الأخرى ما افترض عليهم من الصلاة خضوعا لجلاله ، وخشوعا لعظمته ، وتواضعا لكبريائه ، فقال سبحانه وتعالي : " وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ " ( [1] ) فلم يفترض عليهم بعد توحيده ، والتصديق برسله ، وما جاء من عنده فريضة آكد من الصلاة .
ولقد أكثر سبحانه وتعالي من ذكر الصلاة في كتابه الكريم ، وعظم شأنها ، وأمر بالمحافظة عليها وأدائها في الجماعة .وقد بينت السنة النبوية فضل صلاة الجماعة فى أحاديث كثيرة منها حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قال : قَالَ رَسُولَ اللَّهِ: " صَلاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلاةَ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَة " ( [2] ) وقد انفردت رواية ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهبأنها تفضل : " ًبِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً " ( [3] )وقد أحصى بعضُ الشارحين سبعا وعشرين فضيلة لصلاة الجماعة ، وقد سبق لنا فى خطب سابقة إلقاء الضوء على بعض منها ، بدأًًًًًًً بالفضيلة الأولى وهى ترديد الأذان خلف المؤذن ، ثم ثنينا بـ" التَّهْجِير" أَيْ التَّبْكِير بالذهاب إلى المسـجد ثم الثالثة وهى المشى إلى المسجد بالسـكينة والوقار كل ذلك بنية الصلاة في الجماعة ، واليوم بفضل الله تعالى مع الرابعة من الفضائل السبع والعشرين لصلاة الجماعة ، ألا وهى دخول المسجد داعيا بنية الصلاة في الجماعة. وقد ترجم البخارى فى ذلك بابا بعنوان : " بَاب التَّيَمُّنفِي دُخُول الْمَسْجِد وَغَيْره " هكذا بت الحكم في هذه المسألة ، فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ :" كَانَ النَّبِيُّيُحِبُّ التَّيَمُّنَ مَا اسْتَطَاعَ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ فِي طُهُورِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَتَنَعُّلِهِ"( [4] ) قوله : ( يحب التيمن ) أي الشروع باليمين ، و الابتداء في الأفعال والرجل اليمنى والجانب الأيمن في أموره اللائقة بذلك ، قيل لأنه كان يحب الفأل الحسن إذ أصحاب اليمين أهل الجنة( [5] ) وروي بلفظ ( يحب التيامن) أي استعمال اليمين فيما يصلح لذلك ، كما ورد في حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها عند النسائي قَالَتْ : " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُحِبُّ التَّيَامُنَ يَأْخُذُ بِيَمِينِهِ وَيُعْطِي بِيَمِينِهِ وَيُحِبُّ التَّيَمُّنَ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ " ( [6] ) أي أن الابتداء باليمين لم يعهد فيه المقارنة ، ويكون من باب التشريف ، بخلاف غسل الوجه ومسح الرأس والأذنين فإن المعهود في هذه الأشياء قران اليسار باليمين بخلاف الخروج من المسجد والدخول فيه فإن أمثالهما ليست من باب التشريف فالبداية باليسار فيها عند الخروج أحق . ( [7] )قوله : ( في طهوره ) بالضم ويفتح والمراد به المصدر( وفي ترجله ) أي امتشاطه الشعر من اللحية والرأس . ( وانتعاله ) أي لبس نعله .وفي رواية عند مسلم (وسواكه ) . فكان هديه التيمن في طهوره إذا تطهر ، وفي ترجله إذا ترجل ، وفي انتعاله إذا انتعل ، وفي سواكه إذا تسـوك ... الخ .
( وهذه قاعدة مستمرة في الشرع ، وهي إن ما كان من باب التكريم والتشريف كلبس الثوب والسراويل والخف ودخول المسجد والسواك والاكتحال ، وتقليم الأظفار ، وقص الشارب ، وترجيل الشعر وهو مشطه أي تمشيطه ، ونتف الإبط ، وحلق الرأس ، والسلام من الصلاة ، وغسل أعضاء الطهارة ، والخروج من الخلاء ، والأكل والشرب ، والمصافحة ، واستلام الحجر الأسود ، وغير ذلك مما هو في معناه يستحب التيامن فيه . وأما ما كان بضده كدخول الخلاء والخروج من المسجد والامتخاط والاستنجاء وخلع الثوب والسراويل والخف وما أشبه ذلك ، فيستحب التياسر فيه ، وذلك كله بكرامة اليمين وشرفها . والله أعلم .
( وأجمع العلماء على أن تقديم اليمين على اليسار من اليدين والرجلين في الوضوء سنة ، لو خالفها فاته الفضل ، وصح وضوؤه
( واعلم أن الابتداء باليسار إن كان مجزيا فهو مكروه ، نص عليه الشافعي ، وهو ظاهر . وقد ثبت في سنن أبي داود والترمذي وغيرهما بأسانيد حميدة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : " إذا لبستم أو توضأتم فابدءوا بأيامنكم " . فهذا نص في الأمر بتقديم اليمين ، ومخالفته مكروهة أو محرمة ، وقد انعقد إجماع على أنها ليست محرمة ، فوجب أن تكون مكروهة . ثم اعلم أن من أعضاء الوضوء ما لا يستحب فيه التيامن ، وهو الأذنان والكفان والخدان بل يطهران دفعة واحدة ، فإن تعذر ذلك كما في حق الأقطع ونحوه ؛ قدم اليمين . والله أعلم . ) ( [8] )
نعود غلي موضوعنا الرئيس ، وهو دخول المسجد داعيا بنية الصلاة في الجماعة ففِي الْمُسْتَدْرَك لِلْحَاكِمِ عَنْ أَنَس بن مالك رضي الله عنهأَنَّهُ كَانَ يَقُول: " مِنْ السُّنَّة إِذَا دَخَلْت الْمَسْجِد أَنْ تَبْدَأ بِرِجْلِك الْيُمْنَى ، وَإِذَا خَرَجْت أَنْ تَبْدَأ بِرِجْلِك الْيُسْرَى " ( [9] )
وَعلى ذلك فإن المسلم إذا دخل المسجد يبدأ برجله اليمنى ، وإذا خرج يخرج برجله اليسرى ،أما قول السيدة عائشة رضي الله عنها : " كَانَ النَّبِيُّيُحِبُّ التَّيَمُّنَ مَا اسْتَطَاعَ "فـ " مَا اِسْتَطَاعَ " إشارة إلى شدة المحافظة على التيمن ( [10] ) أو أنه احتراز عما لا يستطاع فيه التيمن شرعا كدخول الخلاء والخروج من المسجد ، وكذا تعاطي الأشياء المستقذرة باليمين كالاستنجاء والتمخط .
ويسـن لداخل المسجد أذكارا ، فعَنْ أَبِي أُسَيْدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ وَإِذَا خَرَجَ فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ " ( [11] ) وفى سـنن أبى داوود يسلم على النبى قبل دعاء الدخول ، فعَنْ أَبَى هُرَيْرَة رضي الله عنهأَنَّ رَسُول اللَّه َ قَالَ : " إِذَا دَخَلَ أَحَدكُمْ الْمَسْجِد فَلْيُسَلِّمْ عَلَى النَّبِيّ ثُمَّ لِيَقُلْ اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ فَإِذَا خَرَجَ فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ "( [12] ) وفى سنن ابن ماجه مثله ولكن بزيادة الاستعاذة من الشيطان الرجيم قال : "َ ... إِذَا خَرَجَ فَلْيُسَلِّمْ عَلَى النَّبِيِّ وَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ اعْصِمْنِي مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ "( [13] )
وقد جاءت في هذا الموطن ــ الدخول إلى المسـجد ــ أذكار كثيرة غير هذا في سنن أبي داود وغيره ، وقد جمعها الإمام النووى مفصلة في أول كتاب الأذكار، ومختصر مجموعها : ( أَعُوذ بِاَللَّهِ الْعَظِيم وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيم وَسُلْطَانه الْقَدِيم مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيم بِسْمِ اللَّه وَالْحَمْد لِلَّهِ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِ مُحَمَّد وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَاب رَحْمَتك ) وَفِي الْخُرُوج يَقُولهُ ، لَكِنْ يَقُول : " اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلك مِنْ فَضْلك " ( [14] )
قال الطيبي : لعل السر في تخصيص الرحمة بالدخول والفضل بالخروج لأن الدخول وضع لتحصيل الرحمة والمغفرة ، فمن دخل اشتغل بما يزلفه إلى ثواب الله وجنته . فيناسب ذكر الرحمة ، وخارج المسجد هو محل الطلب للرزق ، فإذا خرج اشتغل بابتغاء الرزق الحلال فناسب ذكر الفضل ، كما قالسبحانه وتعالي ( [15] ) : " ... فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ "( [16] )
وهنا لطيفة نستشعرها من حديث فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ عَنْ جَدَّتِهَا فَاطِمَةَ الْكُبْرَى رضى الله عنهم أجمعينقَالَتْ : " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ وَقَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ وَإِذَا خَرَجَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ وَقَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِكَ "فبالإضافة إلى أنه : عند دخول المسجد وعند الخروج منه ، يعتبر موطنا من مواطن الصلاة على النبي كما قال الحافظ ابن القيم في جلاء الأفهام ( الموطن الثامن ) ففيه تشريع للأمة وبيان بأن حكمه حكم الأمة حتى في ابتغاء السلام على نفسه ، إلا ما خصه الدليل ، قال القاري في المرقاة : ثم حكمته بعد تعليم أمته أنه كان يجب عليه الإيمان بنفسه كما كان يجب على غيره فكذا طلب منه تعظيمها . ( [17] )
وإنما شرع السلام على رسول الله عند دخول المصلِِّى المسجد وعند خروجه لأنه هوالسبب في دخول المصلِّى المسجد ووصول الخير العظيم إليه ، فينبغي أن يذكره بالخير. ( [18] )
*** *** ***
ومن هديه أن الداخل إلى المسجد يبتدئ بركعتين تحية المسجد ، ثم يجىء فيسلم على القوم ، فتكون تحية المسجد قبل تحية أهل المسجد ، فإن تلك حق الله تعالى ، والسلام على الخلق حق لهم ، وحق الله فى هذا المقام أحق بالتقديم ، بخلاف الحقوق المالية فإن فيها نزاعا معروفا ــ بين العلماء ــ ، والفرق بينهما حاجة الآدمى وعدم اتساع الحق المالى لأداء الحقين بخلاف السلام ، وكانت عادة القوم معه هكذا : يدخل أحدهم المسجد فيصلى ركعتين ثم يجىء فيسلم على النبى وهذا ما ما يدلنا عليه حديث المسئ صلاته ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه : أَنَّ رَجُلا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ جَالِسٌ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ : " وَعَلَيْكَ السَّلامُ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ " ... وذكر الحديث ( [19] ) فأنكر عليه صلاته ، ولم ينكر عليه تأخير السلام عليه إلى ما بعد الصلاة. وعلى هذا فيسـن لداخل المسجد إن كان فيه جماعة ثلاث تحيات متواليات : · الأولي أن يدخل برجله اليمني ويقول عند دخوله : بسم الله والصلاة والسلام على رسـول الله اللهم اغفر لي وافتح لي أبواب رحمتك · ثم يصلى ركعتين تحية المسجد وهي الثانية · ثم يسلم على القوم وهي الثالثة . ( [20] ) ثلاث فضائل من فضائل صلاة الجماعة السبعة والعشرين ، كل فضيلة منها تضم عدة فوائد ، أو قل تشتمل علي عدة فضائل ثانوية ، يتفاوت المسلمون في تحصيل درجاتها ، حسب تفاوت جهودهم المبذولة فيها . وهكذا ما من رجل يتوضأ فيحسن الوضوء ، ويردد مع المؤذن كلمات الأذان ، بنية الإجابة وأداء الصلاة فى الجماعة ، ثم يمشى إلى المسجد بالسكينة والوقار ، لا ينهزه الا الصلاة ، لا يريد إلا الصلاة ، إلا كتب له بكل خطوة درجة وحط عنه خطيئة حتى يدخل المسجد داعيا أن يزلفه الله إلى جنته ، بعد أن يكون قد دعى لنبيه الذى لولاه ــ بعد الله ــ ما اهتدينا ولا صلينا ، فإذا دخل المسجد صلى ما قدر له الله أن يصلى ، كل ذلك بنية الصلاة في الجماعة ... انتظارا لصلاة الجماعة ، إن وفقه الله إلى ذلك ، كان في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه والملائكة تصلي عليه ما دام في مسجده الذي صلى فيه ، و" ... غُفِرَ لَهُ مَا خَلا مِنْ ذَنْبِهِ "( [21] )
[1] البينة 5
[2]صحيح البخاري ج 3 / ص 34
[3]صحيح البخاري ج 3 / ص 35
[4] صحيح البخاري ج 2 / ص 199حديث 408
[5]عون المعبود 9/ 175
[6] سنن النسائي 15/ 280
[7] حاشية السندي على ابن ماجه 1/ 365 [8] شرح النووي على مسلم 1/ 427
[9] المستدرك على الصحيحين للحاكم ج 2 / ص 297
[10]شرح النووي على مسلم 1/ 428
[11] صحيح مسلم ج 4 / ص 28
[12]سنن أبي داود ج 2 / ص 55
[13] سنن ابن ماجه ج 2 / ص 490
[14] شرح النووى على مسلم 3/33الحديث 1165
[15] الجمعة من الآية 10
[16] عون المعبود شرح الحديث رقم 393 سنن أبو داود
[17] تحفة الأحوذى ج 1 / ص 343 شرح الحديث رقم 289شرح سنن الترمذى
[18] حاشية السندى الحديث 736 ابن ماجه
[19] صحيح البخاري ج 19 / ص 276
[20]زاد المعاد 2/ 376
[21] صحيح مسلم ج 2 / ص 18