الباب الثاني
فضائل صلاة الجماعة السبع والعشرين
الفصل الثاني : التَّهْجِير
عرفنا في الفصل السابق أن السنة النبوية المشرفة قد بينت فضل صلاة الجماعة فى أحاديث كثيرة منها حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قال : قَالَ رَسُولَ اللَّهِ : " صَلاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلاةَ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَة " وأن رواية ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهماقد انفزدت بأنها تفضل : " ًبِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً "( [1] )
وعرفنا أيضا أن بعضُ الشارحين قد أحصى سبعا وعشرين فضيلة لصلاة الجماعة ، وقد بدأنا فى الفصل الماضى فى إلقاء الضوء على بعض منها ، بدأًًًًًًً بالفضيلة الأولى وهى ترديد الأذان خلف المؤذن بنية الصلاة في الجماعة ، وعرفنا أن من حقق سنة المصطفي بشأن تلك الفضيلة ثوابه عند الله أن يغفرله ذنبه ، وينال شفاعة المصطفى يوم القيامة ، وأن يدخل الجنة ، وعرفنا أيضا من مميزات هذه الفضيلة أن الدعاء عقب الأذان ، وأيضا بين الأذان والإقامة مسـتجابٌ وغير مردود.
واليوم بفضل الله سبحانه وتعالي مع الفضيلة الثانية من الفضائل السبع والعشرين لصلاة الجماعة ، وهى " التَّهْجِير" أَيْ التَّبْكِير إِلَى الصَّلَوَات أول الوقت ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِقَال َ: " بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ ثُمَّ قَالَ الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ الْمَطْعُونُ وَالْمَبْطُونُ وَالْغَرِيقُ وَصَاحِبُ الْهَدْمِ وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَقَالَ لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلا أَنْ يَسْتَهِمُوا لاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا "( [2] )
الشاهد من الحديث قوله: " ... لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ "و" التَّهْجِير" أي التبكير إلى الصلاة أي صلاة كانت ، وإن كان الأصل في التهجير الإتيان إلى صلاة الظهر في أول الوقت ، لأن التهجير مشتق من الهاجرة وهي شدة الحر نصف النهار وهو أول وقت الظهر .وقوله : " لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ" أي مِنْ الْخَيْر وَالْبَرَكَة " ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا "سَبِيلا إِلَى تَحْصِيله بِطَرِيقٍ إلا الاستباق"لاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ " أي لسـبق بعضهم بعضا إليه ، والمراد بالاستباق معنى لا حسـا ، لأن المسابقة على الأقدام حسا تقتضي السرعة في المشي في الطريق إلي المسجد للصلاة وهو ممنوع منه ، فيكون المقصود الخروج إليه وانتظار الصلاة في المسجد كل قبل الآخر ؛ لتحصيل خير وبركة هذه الفضيلة . ( [3] )
ومن بركات فضيلة التهجير أيضا أن الذى يبكر إلى الصلاة فى المسجد ، يتيسر له أن يؤديها فى أول الوقت مع الجماعة ، وهذا مِنْ أَفْضَلِ الأَعْمَالِ التى يحبها الله سبحانه وتعالي فعن عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنهأنه سَأَل رَسُولَ اللَّهِ: " أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ ؟ قَالَ الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا ، قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ، قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ "( [4] )
فهذا الحديث وغيره مما اختلفت فيه الأجوبة من الرسول بأنه أفضل الأعمال ، ومحصل ما أجاب به العلماء أن الجواب اختلف لاختلاف أحوال السائلين بأن أعلم كل قوم بما يحتاجون إليه ، أو بما هو لائق بهم ، أو كان الاختلاف باختلاف الأوقات ، بأن يكون العمل في ذلك الوقت أفضل منه في غيره ، فقد كان الجهاد في ابتداء الإسلام أفضل الأعمال ؛ لأنه الوسيلة إلى القيام بها والتمكن من أدائها ، و تضافرت النصوص على أن الصلاة أفضل من الصدقة ، ومع ذلك ففي وقت مواساة المضطر تكون الصدقة أفضل ، إلى غير ذلك من الأقوال.
والشاهد من الحديث قوله: " الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا " فالبدار إلى الصلاة في أول أوقاتها أفضل من التراخي فيها ؛ لأنه إنما شرط فيها أن تكون أحب الأعمال إذا أقيمت لوقتها المستحب .ولفظ " أحب " يقتضي أيضا المشاركة في الاستحباب بين الأعمال المذكورة فى الحديث ، فقد قرن محبة الله سبحانه وتعالي لـ " الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا " بمحبته سبحانه وتعاليلـ "بِرُّ الْوَالِدَيْنِ " ولـ " الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " ليبين أهمية الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا ، وأنها تساوى فى فضلها عند الله هذه الأعمال العظيمة التى منها ذروة سـنام الإسلام وهو " الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " ، وليبين من ناحية أخرى أنه إن وقعت الصلاة في وقتها كانت أحب إلى الله من غيرها من الأعمال ؛ فوقع الاحتراز عن إيقاعها فى آخر الوقت ... خاصة وقد تعقب بأن إخراجها ــ بغير عذر ــ عن وقتها محرم .قال ابن بَزِيزَة : الذي يقتضيه النظر تقدم الجهاد على جميع أعمال البدن ؛ لأن فيه بذل النفس ، إلا أن الصبر على المحافظة على الصلوات وأدائها في أوقاتها ، والمحافظة على بر الوالدين ، أمر لازم متكرر دائم لا يصبر على مراقبة أمر الله فيه إلا الصديقون ، ومن ثم عرف أهمية أداء الصلوات فى أوقاتها . ( [5] )
و بإمعان النظر فى متن حديث أبى هريرة ، نجد أن المتن اشتمل على قصة الذي نحّى غصن الشوك , والشهداء , والترغيب في النداء ، والصف الأول ، والتهجــير، وصلاتى العتمة والصبح ، فذكر التهجير هنا بين أمور عظام كالشهادة فى سبيل الله ليبن عظمة التهجير والتبكير إلى صلاة الجماعة ، وأنها قد تساوى هذه الأعمال الفاضلة فى الثواب أو تقرب منها ، وهذا من باب تحريض المصطفىالمسلمين على الحرص على التبكير للجماعات حتى يحصلوا الخيرات والبركات الوفيرة التى ذكرنا بعضها. نضيف فضلا آخر للتبكير إلى المسجد يمكن استخلاصه من هذا الحديث ، وأيضا من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فى صحيح مسلم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : " لا يَزَالُ الْعَبْدُ فِي صَلاةٍ مَا كَانَ فِي مُصَلاهُ يَنْتَظِرُ الصَّلاةَ وَتَقُولُ الْمَلائِكَةُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ حَتَّى يَنْصَرِفَ أَوْ يُحْدِثَ قُلْتُ مَا يُحْدِثُ قَالَ يَفسـُو أَوْ يَضْرِطُ " ( [6] )
وعليه فإن الذى يبكر للجماعة يُحتسب له جلوسه فى مصلاه كأنه فى صلاة ، علاوة على دعاءِ الملائكةِ له بالمغفرة والرحمة .
*** *** ***
فضل التبكير إلي صلاة الجمعة :وطالما أننا نتحدث عن التبكير إلى المسجد لأداء صلاة الجماعة مطلقا ، فإن الأمر لابد أن يسـوقنا إلى فضائل التبكير إلى صلاة الجمعة ، فإن لهذه الصلاة مزية على غيرها من الصلوات يبينها ابن مسعود فى قوله : "سَارِعُوا إِلَى الْجُمَعِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْرُزُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ فِي كَثِيبٍ مِنْ كَافُورٍ، فَيَكُونُوا مِنَ الْقُرْبِ عَلَى قَدْرِ تَسَارُعِهِمْ إِلَى الْجُمُعَةِ ، فَيُحْدِثُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ شَيْئًا لَمْ يَكُونُوا رَأَوْهُ قَبْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ فَيُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا أَحْدَثَ اللَّهُ لَهُمْ" قال أبوعبيد راوى هذا االحديث : أن عبد الله ابن مسعود بعد أن روى له هذا الحديث ، دَخَلَ الْمَسْجِدَ ــ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ـ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ قَدْ سَبَقَاهُ ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : " رَجُلانِ وَأَنَا الثَّالِثُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُبَارِكَ فِي الثَّالِثِ". ( [7] )
وعَنْ عَلْقَمَةَ بن قيس قَالَ : خَرَجْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى الْجُمُعَةِ فَوَجَدَ ثلاثَةً وَقَدْ سَبَقُوهُ فَقَالَ : إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يقول : " إِنَّ النَّاسَ يَجْلِسُونَ مِنْ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَدْرِ رَوَاحِهِمْ إِلَى الْجُمُعَاتِ الأَوَّلَ وَالثَّانِيَ وَالثَّالِثَ " ثُمَّ قَالَ: رَابِعُ أَرْبَعَةٍ وَمَا رَابِعُ أَرْبَعَةٍ بِبَعِيدٍ.( [8] )
فهذه الأحاديث الشريفة , تبين فضل التبكير إلى المسجد يوم الجمعة ، وأن الجزاء على ذلك هو خير جزاء يتفضل به الله على عباده يوم القيامة ، وهو النظر إلى وجهه الكريم سبحانه وتعالي ، وأنه لا مزيد على ذلك من النعيم فى الجنة ، عن ابن عمر رضي الله عنهقال : قال رسول الله: " إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ إِلَى جِنَانِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَنَعِيمِهِ وَخَدَمِهِ وَسُرُرِهِ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ ــ هذا أقل واحد ، أفقر واحد في الجنة ، وإن كانت الجنة لا يوجد بها فقراء -ـ وَأَكْرَمَهُمْ عَلَى اللَّهِ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِهِ غَدْوَةً وَعَشِيَّةً " ثم قرأ رسول الله : " وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ "( [9] )
وروى مسلم في صحيحه أن النبي قال : " إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ قَالَ : يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا ، أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنْ النَّارِ. قَالَ : فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ سبحانه وتعالي " ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ : "لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ"( [10] )
فاحرص أخى المسلم ... احرص على الإستفادة من يوم الجمعة ، هذا اليوم الذى ادخره الله سبحانه وتعالي لأمة محمد وأَضلََّ عنه أهلَ الكتاب قبلَهم ، كما جاء فى الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِقَالَ : " مَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ وَلاغَرَبَتْ عَلَى يَوْمٍ خَيْرٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ هَدَانَا اللَّهُ لَهُ ، وَأَضَلَّ النَّاسَ عَنْهُ ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ ، هُوَ لَنَا ، وَلِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ ، وَلِلنَّصَارَى يَوْمُ الأحَدِ ... الخ " ( [11] )
وفى حديث آخر عن أمنا عائشة رضي الله عنها : " ... إِنَّهُمْ لا يَحْسُدُونَا عَلَى شَيْءٍ كَمَا يَحْسُدُونَا عَلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ الَّتِي هَدَانَا اللَّهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا وَعَلَى الْقِبْلَةِ الَّتِي هَدَانَا اللَّهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا وَعَلَى قَوْلِنَا خَلْفَ الإِمَامِ آمِينَ " ( [12] )
فيوم الجمعة أخى المسلم : هو خيرة الله من أيام الأسبوع ، كما أن شهر رمضان خيرته من الشهور في العام ، وكما أن ليلة القدر خيرته من الليالى ، ومكة خيرته من الأرض ، ومحمداخيرته من خلقه. ولهذا أيها الإخوة الكرام ... أوصيكم بتقوى الله عز وجل ، والحضور إلى المسجد مبكرين يوم الجمعة ، قبل الأذان ، وقبل صعود الإمام المنبر ، فهذا اليوم هو هدية الله لنا في كل أسبوع ، جعله الله لنا في الدنيا عيدا ، وفى الآخرة يومَ المزيد ، يتجلى فيه الله سبحانه وتعالي لأوليائه المؤمنين في الجنة ، ويسمح لهم فيه بزيارته سبحانه وتعاليفيكون أقربهم منه سبحانه وتعاليأقربهم من الإمام في يوم الجمعة ، وأسبقهم إلى الزيارة أسبقهم إلى المسجد يوم الجمعة . نسال الله سبحانه وتعالي أن يمتعنا بالنظر إلى وجهه الكريم.*** *** ***
وهناك فضيلة غالية أخرى للتبكير فى الرواح إلى المسجد يوم الجمعة ؛ ذلك أن يوم الجمعة هو العيد الأسبوعي للمسلمين ، قد جعله الله لنا فى الأسبوع كالعيد فى العام ، وكلنا يعلم أن العيد يشتمل على صلاة وقربان ... أى صلاة وأضحية " إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ " ( [13] )
ولما كان يوم الجمعة يوم صلاة ، فقد جعل الله سبحانه وتعالي التبكير فيه إلى المسجد بدلا من القربان ، أى بدلا من الأضحية ، وبذلك يجتمع فيه للرائح الى المسجد مبكرا الصلاةُ والقربانُ ، فقد ورد فى الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : "مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ حَضَرَتْ الْمَلائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ."( [14] )
فمتى خرج الإمام طوت الملائكة الصحف ، ولم يكتب لأحـد قربانٌ بعد ذلك ؛ لأن الملائكة تجلس تستمع إلى الخطبة . جاء في فتح الباري : " قوله : ( من اغتسل غسل الجنابة) أي غسلا كغسل الجنابة ، أو كما يغتسل من الجنابة " وظاهره أن التشبيه للكيفية لا للحكم . وقوله : ( ثم راح )زاد أصحاب الموطأ عن مالك " في الساعة الأولى " .
وقوله : ( فكأنما قرب بدنة ) أي تصدق بها المبادر في أول ساعة متقربا إلى الله ، وفي رواية ابن جريج " فله من الأجر مثل الجزور " وظاهره أن المراد أن الثواب لو تجسد لكان قدر الجزور ، وقيل ليس المراد بالحديث إلا بيان تفاوت المبادرين إلى الجمعة ، وأن نسبة الثاني من الأول نسبة البقرة إلى البدنة في القيمة مثلا ، ويدل عليه أن في مرسل طاوس عند عبد الرزاق " كفضل صاحب الجزور على صاحب البقرة " ووقع في رواية الزهري بلفظ " كمثل الذي يهدي بدنة " فكأن المراد بالقربان في رواية الباب الإهداء إلى الكعبة ، يعضد ذلك ما قال الطيبي : " في لفظ الإهداء إدماج بمعنى التعظيم للجمعة ، وأن المبادر إليها كمن ساق الهدي " .وقوله : ( فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر ) وزاد في رواية الزهري " طووا صحفهم " ولمسلم من طريقه " فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاءوا يستمعون الذكر "، وأول حديث الزهري " إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد يكتبون الأول فالأول " وعن أبي هريرة عند ابن خزيمة " على كل باب من أبواب المسجد ملكان يكتبان الأول فالأول "ووقع في حديث ابن عمر صفة الصحف المذكورة ، أخرجه أبو نعيم في الحلية مرفوعا بلفظ " إذا كان يوم الجمعة بعث الله ملائكة بصحف من نور وأقلام من نور " الحديث ، وهو دال على أن الملائكة المذكورين غير الحفظة ، والمراد بطي الصحف طي صحف الفضائل المتعلقة بالمبادرة إلى الجمعة دون غيرها من سماع الخطبة وإدراك الصلاة والذكر والدعاء والخشوع ونحو ذلك ، فإنه يكتبه الحافظان قطعا .ووقع في رواية ابن عيينة عن الزهري في آخر حديثه المشار إليه عند ابن ماجه " فمن جاء بعد ذلك فإنما يجيء لحق الصلاة " وفي رواية ابن جريج من الزيادة في آخره " ثم إذا استمع وأنصت غفر له ما بين الجمعتين وزيادة ثلاثة أيام " .
وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم الحض على الاغتسال يوم الجمعة وفضله ، وفضل التبكير إليها ، وأن الفضل المذكور إنما يحصل لمن جمعهما ، وعليه يحمل ما أطلق في باقي الروايات من ترتب الفضل على التبكير من غير تقييد بالغسل . وفي حديث سمرة " ضرب رسول الله مثل الجمعة في التبكير كناحر البدنة " الحديث ، أخرجه ابن ماجه ، ولأبي داود من حديث علي مرفوعا " إذا كان يوم الجمعة غدت الشياطين براياتها إلى الأسواق ، وتغدو الملائكة فتجلس على باب المسجد فتكتب الرجل من ساعة والرجل من ساعتين " الحديث .وقد أشار الصيدلاني الشافعي شارح المختصر : إن أول التبكير يكون من ارتفاع النهار ، وهو أول الضحى ، وهو أول الهاجرة . انتهي ( [15] )
فالذى يبكر إلى المسجد يوم الجمعة يكون يوم القيامة ، أسرع إلى زيارة ربه بقدر مسارعته في الحضور إلى المسجد يوم الجمعة.والذى يبكر إلى المسجد يكون قريبا من الإمام ؛ لأنه يجلس في الصفوف الأولى ، وهو يوم القيامة بالقرب من ربه سبحانه وتعالي بقدر قربه من الإمام ، قُرْب مَكَانَة طبعا لا قرب مَكَان كَمَا قد يَتَوَهَّم البعض مِنْ ظَاهِر اللَّفْظ .والذى يبكر إلى المسجد يقدم لله سبحانه وتعالي قربانا ، بقدر الساعة المبكرة التى حضر فيها إلى المسجد ، لصلاة الجمعة : إما بدنة أو بقرة أوكبشا ... الخ بقدر تبكيره.
أما من حضر بعد خروج الإمام فإنه لا يكتب له قربان لأن الملائكة تكون قد طوت الصحف ، فمن جاء بعد خروج الإمام جاء لحق الله وما كتب عليه فقط من الصلاة ، ولم يتقرب إلى الله سبحانه وتعالي بأى قربان ، فقد ضيعه المسكين على نفسه وهو لا يدرى ، والعمر يجرى ، وقد تكون هذه آخر جمعة له ، فاستغفر الله على تقصيرك ، واعقد العزم على أنه إذا أطال الله فى عمرك للجمعة القادمة أن تبكر ولا تتأخر فى الحضور إلى المسجد ــ بل اجعل التبكير إلى المسجد فى كل صلواتك هدفا لك ــ فإذا حضرت فاشغل نفسك بالصلاة ، أو قراءة القرآن ، أو ذكر الله ، أو التفكر فى آلاء الله ... الخ .
حتى يخرج الإمام ، لتنال أجر الصلاة والقربان ، وحتى تكون قريبا من ربك يومَ القيامة بقدر تبكيرك وقربك من الإمام .
[1] صحيح البخاري : 3/34
[2] صحيح البخاري ج 2 / ص 483
[3]فتح الباري لابن حجر 2/ 418 بتصرف
[4]صحيح مسلم ج 1 / ص 235
[5]سنن أبي داود ج 7 / ص 182
[6] صحيح مسلم ج 3 / ص 407برقم1061
[7] المعجم الكبير للطبراني ج 8 / ص 168
[8] مرفوع انفرد به ابن ماجه برقم 1084
[9] تفسير القرطبي ج 19 ص 108 وسنن الترمذي ج 9 / ص 110 4 يونس 26
[11] مسند الإمام أحمد برقم 10305
[12] مسند الإمام أحمد برقم 23880
[13]الكوثر :1 ، 2
[14] صحيح البخاري 3/396
[15]فتح الباري لابن حجر 3/ 285 بتصرف
فضائل صلاة الجماعة السبع والعشرين
الفصل الثاني : التَّهْجِير
عرفنا في الفصل السابق أن السنة النبوية المشرفة قد بينت فضل صلاة الجماعة فى أحاديث كثيرة منها حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قال : قَالَ رَسُولَ اللَّهِ : " صَلاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلاةَ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَة " وأن رواية ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهماقد انفزدت بأنها تفضل : " ًبِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً "( [1] )
وعرفنا أيضا أن بعضُ الشارحين قد أحصى سبعا وعشرين فضيلة لصلاة الجماعة ، وقد بدأنا فى الفصل الماضى فى إلقاء الضوء على بعض منها ، بدأًًًًًًً بالفضيلة الأولى وهى ترديد الأذان خلف المؤذن بنية الصلاة في الجماعة ، وعرفنا أن من حقق سنة المصطفي بشأن تلك الفضيلة ثوابه عند الله أن يغفرله ذنبه ، وينال شفاعة المصطفى يوم القيامة ، وأن يدخل الجنة ، وعرفنا أيضا من مميزات هذه الفضيلة أن الدعاء عقب الأذان ، وأيضا بين الأذان والإقامة مسـتجابٌ وغير مردود.
واليوم بفضل الله سبحانه وتعالي مع الفضيلة الثانية من الفضائل السبع والعشرين لصلاة الجماعة ، وهى " التَّهْجِير" أَيْ التَّبْكِير إِلَى الصَّلَوَات أول الوقت ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِقَال َ: " بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ ثُمَّ قَالَ الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ الْمَطْعُونُ وَالْمَبْطُونُ وَالْغَرِيقُ وَصَاحِبُ الْهَدْمِ وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَقَالَ لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلا أَنْ يَسْتَهِمُوا لاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا "( [2] )
الشاهد من الحديث قوله: " ... لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ "و" التَّهْجِير" أي التبكير إلى الصلاة أي صلاة كانت ، وإن كان الأصل في التهجير الإتيان إلى صلاة الظهر في أول الوقت ، لأن التهجير مشتق من الهاجرة وهي شدة الحر نصف النهار وهو أول وقت الظهر .وقوله : " لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ" أي مِنْ الْخَيْر وَالْبَرَكَة " ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا "سَبِيلا إِلَى تَحْصِيله بِطَرِيقٍ إلا الاستباق"لاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ " أي لسـبق بعضهم بعضا إليه ، والمراد بالاستباق معنى لا حسـا ، لأن المسابقة على الأقدام حسا تقتضي السرعة في المشي في الطريق إلي المسجد للصلاة وهو ممنوع منه ، فيكون المقصود الخروج إليه وانتظار الصلاة في المسجد كل قبل الآخر ؛ لتحصيل خير وبركة هذه الفضيلة . ( [3] )
ومن بركات فضيلة التهجير أيضا أن الذى يبكر إلى الصلاة فى المسجد ، يتيسر له أن يؤديها فى أول الوقت مع الجماعة ، وهذا مِنْ أَفْضَلِ الأَعْمَالِ التى يحبها الله سبحانه وتعالي فعن عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنهأنه سَأَل رَسُولَ اللَّهِ: " أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ ؟ قَالَ الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا ، قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ، قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ "( [4] )
فهذا الحديث وغيره مما اختلفت فيه الأجوبة من الرسول بأنه أفضل الأعمال ، ومحصل ما أجاب به العلماء أن الجواب اختلف لاختلاف أحوال السائلين بأن أعلم كل قوم بما يحتاجون إليه ، أو بما هو لائق بهم ، أو كان الاختلاف باختلاف الأوقات ، بأن يكون العمل في ذلك الوقت أفضل منه في غيره ، فقد كان الجهاد في ابتداء الإسلام أفضل الأعمال ؛ لأنه الوسيلة إلى القيام بها والتمكن من أدائها ، و تضافرت النصوص على أن الصلاة أفضل من الصدقة ، ومع ذلك ففي وقت مواساة المضطر تكون الصدقة أفضل ، إلى غير ذلك من الأقوال.
والشاهد من الحديث قوله: " الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا " فالبدار إلى الصلاة في أول أوقاتها أفضل من التراخي فيها ؛ لأنه إنما شرط فيها أن تكون أحب الأعمال إذا أقيمت لوقتها المستحب .ولفظ " أحب " يقتضي أيضا المشاركة في الاستحباب بين الأعمال المذكورة فى الحديث ، فقد قرن محبة الله سبحانه وتعالي لـ " الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا " بمحبته سبحانه وتعاليلـ "بِرُّ الْوَالِدَيْنِ " ولـ " الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " ليبين أهمية الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا ، وأنها تساوى فى فضلها عند الله هذه الأعمال العظيمة التى منها ذروة سـنام الإسلام وهو " الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " ، وليبين من ناحية أخرى أنه إن وقعت الصلاة في وقتها كانت أحب إلى الله من غيرها من الأعمال ؛ فوقع الاحتراز عن إيقاعها فى آخر الوقت ... خاصة وقد تعقب بأن إخراجها ــ بغير عذر ــ عن وقتها محرم .قال ابن بَزِيزَة : الذي يقتضيه النظر تقدم الجهاد على جميع أعمال البدن ؛ لأن فيه بذل النفس ، إلا أن الصبر على المحافظة على الصلوات وأدائها في أوقاتها ، والمحافظة على بر الوالدين ، أمر لازم متكرر دائم لا يصبر على مراقبة أمر الله فيه إلا الصديقون ، ومن ثم عرف أهمية أداء الصلوات فى أوقاتها . ( [5] )
و بإمعان النظر فى متن حديث أبى هريرة ، نجد أن المتن اشتمل على قصة الذي نحّى غصن الشوك , والشهداء , والترغيب في النداء ، والصف الأول ، والتهجــير، وصلاتى العتمة والصبح ، فذكر التهجير هنا بين أمور عظام كالشهادة فى سبيل الله ليبن عظمة التهجير والتبكير إلى صلاة الجماعة ، وأنها قد تساوى هذه الأعمال الفاضلة فى الثواب أو تقرب منها ، وهذا من باب تحريض المصطفىالمسلمين على الحرص على التبكير للجماعات حتى يحصلوا الخيرات والبركات الوفيرة التى ذكرنا بعضها. نضيف فضلا آخر للتبكير إلى المسجد يمكن استخلاصه من هذا الحديث ، وأيضا من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فى صحيح مسلم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : " لا يَزَالُ الْعَبْدُ فِي صَلاةٍ مَا كَانَ فِي مُصَلاهُ يَنْتَظِرُ الصَّلاةَ وَتَقُولُ الْمَلائِكَةُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ حَتَّى يَنْصَرِفَ أَوْ يُحْدِثَ قُلْتُ مَا يُحْدِثُ قَالَ يَفسـُو أَوْ يَضْرِطُ " ( [6] )
وعليه فإن الذى يبكر للجماعة يُحتسب له جلوسه فى مصلاه كأنه فى صلاة ، علاوة على دعاءِ الملائكةِ له بالمغفرة والرحمة .
*** *** ***
فضل التبكير إلي صلاة الجمعة :وطالما أننا نتحدث عن التبكير إلى المسجد لأداء صلاة الجماعة مطلقا ، فإن الأمر لابد أن يسـوقنا إلى فضائل التبكير إلى صلاة الجمعة ، فإن لهذه الصلاة مزية على غيرها من الصلوات يبينها ابن مسعود فى قوله : "سَارِعُوا إِلَى الْجُمَعِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْرُزُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ فِي كَثِيبٍ مِنْ كَافُورٍ، فَيَكُونُوا مِنَ الْقُرْبِ عَلَى قَدْرِ تَسَارُعِهِمْ إِلَى الْجُمُعَةِ ، فَيُحْدِثُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ شَيْئًا لَمْ يَكُونُوا رَأَوْهُ قَبْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ فَيُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا أَحْدَثَ اللَّهُ لَهُمْ" قال أبوعبيد راوى هذا االحديث : أن عبد الله ابن مسعود بعد أن روى له هذا الحديث ، دَخَلَ الْمَسْجِدَ ــ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ـ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ قَدْ سَبَقَاهُ ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : " رَجُلانِ وَأَنَا الثَّالِثُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُبَارِكَ فِي الثَّالِثِ". ( [7] )
وعَنْ عَلْقَمَةَ بن قيس قَالَ : خَرَجْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى الْجُمُعَةِ فَوَجَدَ ثلاثَةً وَقَدْ سَبَقُوهُ فَقَالَ : إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يقول : " إِنَّ النَّاسَ يَجْلِسُونَ مِنْ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَدْرِ رَوَاحِهِمْ إِلَى الْجُمُعَاتِ الأَوَّلَ وَالثَّانِيَ وَالثَّالِثَ " ثُمَّ قَالَ: رَابِعُ أَرْبَعَةٍ وَمَا رَابِعُ أَرْبَعَةٍ بِبَعِيدٍ.( [8] )
فهذه الأحاديث الشريفة , تبين فضل التبكير إلى المسجد يوم الجمعة ، وأن الجزاء على ذلك هو خير جزاء يتفضل به الله على عباده يوم القيامة ، وهو النظر إلى وجهه الكريم سبحانه وتعالي ، وأنه لا مزيد على ذلك من النعيم فى الجنة ، عن ابن عمر رضي الله عنهقال : قال رسول الله: " إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ إِلَى جِنَانِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَنَعِيمِهِ وَخَدَمِهِ وَسُرُرِهِ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ ــ هذا أقل واحد ، أفقر واحد في الجنة ، وإن كانت الجنة لا يوجد بها فقراء -ـ وَأَكْرَمَهُمْ عَلَى اللَّهِ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِهِ غَدْوَةً وَعَشِيَّةً " ثم قرأ رسول الله : " وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ "( [9] )
وروى مسلم في صحيحه أن النبي قال : " إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ قَالَ : يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا ، أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنْ النَّارِ. قَالَ : فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ سبحانه وتعالي " ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ : "لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ"( [10] )
فاحرص أخى المسلم ... احرص على الإستفادة من يوم الجمعة ، هذا اليوم الذى ادخره الله سبحانه وتعالي لأمة محمد وأَضلََّ عنه أهلَ الكتاب قبلَهم ، كما جاء فى الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِقَالَ : " مَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ وَلاغَرَبَتْ عَلَى يَوْمٍ خَيْرٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ هَدَانَا اللَّهُ لَهُ ، وَأَضَلَّ النَّاسَ عَنْهُ ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ ، هُوَ لَنَا ، وَلِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ ، وَلِلنَّصَارَى يَوْمُ الأحَدِ ... الخ " ( [11] )
وفى حديث آخر عن أمنا عائشة رضي الله عنها : " ... إِنَّهُمْ لا يَحْسُدُونَا عَلَى شَيْءٍ كَمَا يَحْسُدُونَا عَلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ الَّتِي هَدَانَا اللَّهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا وَعَلَى الْقِبْلَةِ الَّتِي هَدَانَا اللَّهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا وَعَلَى قَوْلِنَا خَلْفَ الإِمَامِ آمِينَ " ( [12] )
فيوم الجمعة أخى المسلم : هو خيرة الله من أيام الأسبوع ، كما أن شهر رمضان خيرته من الشهور في العام ، وكما أن ليلة القدر خيرته من الليالى ، ومكة خيرته من الأرض ، ومحمداخيرته من خلقه. ولهذا أيها الإخوة الكرام ... أوصيكم بتقوى الله عز وجل ، والحضور إلى المسجد مبكرين يوم الجمعة ، قبل الأذان ، وقبل صعود الإمام المنبر ، فهذا اليوم هو هدية الله لنا في كل أسبوع ، جعله الله لنا في الدنيا عيدا ، وفى الآخرة يومَ المزيد ، يتجلى فيه الله سبحانه وتعالي لأوليائه المؤمنين في الجنة ، ويسمح لهم فيه بزيارته سبحانه وتعاليفيكون أقربهم منه سبحانه وتعاليأقربهم من الإمام في يوم الجمعة ، وأسبقهم إلى الزيارة أسبقهم إلى المسجد يوم الجمعة . نسال الله سبحانه وتعالي أن يمتعنا بالنظر إلى وجهه الكريم.*** *** ***
وهناك فضيلة غالية أخرى للتبكير فى الرواح إلى المسجد يوم الجمعة ؛ ذلك أن يوم الجمعة هو العيد الأسبوعي للمسلمين ، قد جعله الله لنا فى الأسبوع كالعيد فى العام ، وكلنا يعلم أن العيد يشتمل على صلاة وقربان ... أى صلاة وأضحية " إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ " ( [13] )
ولما كان يوم الجمعة يوم صلاة ، فقد جعل الله سبحانه وتعالي التبكير فيه إلى المسجد بدلا من القربان ، أى بدلا من الأضحية ، وبذلك يجتمع فيه للرائح الى المسجد مبكرا الصلاةُ والقربانُ ، فقد ورد فى الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : "مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ حَضَرَتْ الْمَلائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ."( [14] )
فمتى خرج الإمام طوت الملائكة الصحف ، ولم يكتب لأحـد قربانٌ بعد ذلك ؛ لأن الملائكة تجلس تستمع إلى الخطبة . جاء في فتح الباري : " قوله : ( من اغتسل غسل الجنابة) أي غسلا كغسل الجنابة ، أو كما يغتسل من الجنابة " وظاهره أن التشبيه للكيفية لا للحكم . وقوله : ( ثم راح )زاد أصحاب الموطأ عن مالك " في الساعة الأولى " .
وقوله : ( فكأنما قرب بدنة ) أي تصدق بها المبادر في أول ساعة متقربا إلى الله ، وفي رواية ابن جريج " فله من الأجر مثل الجزور " وظاهره أن المراد أن الثواب لو تجسد لكان قدر الجزور ، وقيل ليس المراد بالحديث إلا بيان تفاوت المبادرين إلى الجمعة ، وأن نسبة الثاني من الأول نسبة البقرة إلى البدنة في القيمة مثلا ، ويدل عليه أن في مرسل طاوس عند عبد الرزاق " كفضل صاحب الجزور على صاحب البقرة " ووقع في رواية الزهري بلفظ " كمثل الذي يهدي بدنة " فكأن المراد بالقربان في رواية الباب الإهداء إلى الكعبة ، يعضد ذلك ما قال الطيبي : " في لفظ الإهداء إدماج بمعنى التعظيم للجمعة ، وأن المبادر إليها كمن ساق الهدي " .وقوله : ( فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر ) وزاد في رواية الزهري " طووا صحفهم " ولمسلم من طريقه " فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاءوا يستمعون الذكر "، وأول حديث الزهري " إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد يكتبون الأول فالأول " وعن أبي هريرة عند ابن خزيمة " على كل باب من أبواب المسجد ملكان يكتبان الأول فالأول "ووقع في حديث ابن عمر صفة الصحف المذكورة ، أخرجه أبو نعيم في الحلية مرفوعا بلفظ " إذا كان يوم الجمعة بعث الله ملائكة بصحف من نور وأقلام من نور " الحديث ، وهو دال على أن الملائكة المذكورين غير الحفظة ، والمراد بطي الصحف طي صحف الفضائل المتعلقة بالمبادرة إلى الجمعة دون غيرها من سماع الخطبة وإدراك الصلاة والذكر والدعاء والخشوع ونحو ذلك ، فإنه يكتبه الحافظان قطعا .ووقع في رواية ابن عيينة عن الزهري في آخر حديثه المشار إليه عند ابن ماجه " فمن جاء بعد ذلك فإنما يجيء لحق الصلاة " وفي رواية ابن جريج من الزيادة في آخره " ثم إذا استمع وأنصت غفر له ما بين الجمعتين وزيادة ثلاثة أيام " .
وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم الحض على الاغتسال يوم الجمعة وفضله ، وفضل التبكير إليها ، وأن الفضل المذكور إنما يحصل لمن جمعهما ، وعليه يحمل ما أطلق في باقي الروايات من ترتب الفضل على التبكير من غير تقييد بالغسل . وفي حديث سمرة " ضرب رسول الله مثل الجمعة في التبكير كناحر البدنة " الحديث ، أخرجه ابن ماجه ، ولأبي داود من حديث علي مرفوعا " إذا كان يوم الجمعة غدت الشياطين براياتها إلى الأسواق ، وتغدو الملائكة فتجلس على باب المسجد فتكتب الرجل من ساعة والرجل من ساعتين " الحديث .وقد أشار الصيدلاني الشافعي شارح المختصر : إن أول التبكير يكون من ارتفاع النهار ، وهو أول الضحى ، وهو أول الهاجرة . انتهي ( [15] )
فالذى يبكر إلى المسجد يوم الجمعة يكون يوم القيامة ، أسرع إلى زيارة ربه بقدر مسارعته في الحضور إلى المسجد يوم الجمعة.والذى يبكر إلى المسجد يكون قريبا من الإمام ؛ لأنه يجلس في الصفوف الأولى ، وهو يوم القيامة بالقرب من ربه سبحانه وتعالي بقدر قربه من الإمام ، قُرْب مَكَانَة طبعا لا قرب مَكَان كَمَا قد يَتَوَهَّم البعض مِنْ ظَاهِر اللَّفْظ .والذى يبكر إلى المسجد يقدم لله سبحانه وتعالي قربانا ، بقدر الساعة المبكرة التى حضر فيها إلى المسجد ، لصلاة الجمعة : إما بدنة أو بقرة أوكبشا ... الخ بقدر تبكيره.
أما من حضر بعد خروج الإمام فإنه لا يكتب له قربان لأن الملائكة تكون قد طوت الصحف ، فمن جاء بعد خروج الإمام جاء لحق الله وما كتب عليه فقط من الصلاة ، ولم يتقرب إلى الله سبحانه وتعالي بأى قربان ، فقد ضيعه المسكين على نفسه وهو لا يدرى ، والعمر يجرى ، وقد تكون هذه آخر جمعة له ، فاستغفر الله على تقصيرك ، واعقد العزم على أنه إذا أطال الله فى عمرك للجمعة القادمة أن تبكر ولا تتأخر فى الحضور إلى المسجد ــ بل اجعل التبكير إلى المسجد فى كل صلواتك هدفا لك ــ فإذا حضرت فاشغل نفسك بالصلاة ، أو قراءة القرآن ، أو ذكر الله ، أو التفكر فى آلاء الله ... الخ .
حتى يخرج الإمام ، لتنال أجر الصلاة والقربان ، وحتى تكون قريبا من ربك يومَ القيامة بقدر تبكيرك وقربك من الإمام .
[1] صحيح البخاري : 3/34
[2] صحيح البخاري ج 2 / ص 483
[3]فتح الباري لابن حجر 2/ 418 بتصرف
[4]صحيح مسلم ج 1 / ص 235
[5]سنن أبي داود ج 7 / ص 182
[6] صحيح مسلم ج 3 / ص 407برقم1061
[7] المعجم الكبير للطبراني ج 8 / ص 168
[8] مرفوع انفرد به ابن ماجه برقم 1084
[9] تفسير القرطبي ج 19 ص 108 وسنن الترمذي ج 9 / ص 110 4 يونس 26
[11] مسند الإمام أحمد برقم 10305
[12] مسند الإمام أحمد برقم 23880
[13]الكوثر :1 ، 2
[14] صحيح البخاري 3/396
[15]فتح الباري لابن حجر 3/ 285 بتصرف